أحمد أمين عندما كان أعمى

لو سألني سائل بعد أن انتهيت من قراءة كتاب “حياتي” وهو سيرة ذاتية لأحمد أمين، عن أكثر شيء شدني، واستغرق تفكيري في هذه السيرة، لقلت له بلا تردد: أحمد أمين عندما كان أعمى!؟

 

في يوم من الأيام، كان أحمد أمين عاكفًا على القراءة، والكتابة، والتحصيل والإنتاج، وفجأةً برزت نقطة سوداء على نظارته، فرك النظارة ظن منه أنها قطرة ماء سقطت عليها، لكنها لم تذهب!
زار الطبيب ليكشف على عينيه، ففُجع أنه مصاب بانفصال الشبكية، وأنه لا دواء له، غير إجراء عملية جراحية تحتاج إلى شهر أو شهرين مغمّى العينين، متخذًا وضعًا واحدًا. كانت حسرته على هذا الأمر بالذات، وقلقه منه، أضعاف غيره من الناس، إذا ألمّ بهم مرض.

 

يقول أمين: “اضطربت لهذا النبأ وأحسست خطورة الموقف، وأكبر ما جال في نفسي شعوري بحرماني من القراءة والكتابة مدى طويلا، أنا الذي اعتاد أن تكون قراءته وكتابته مسلاته (أي: تسليته) الوحيدة”. ماباليد حيلة، عزم أمره وأجرى العملية، وعاش في ظلام دامس نهاره ليل، وليله ليلان.

 

قرر أن يكون ظلامه مضيئًا، فلئن حُرم من نور البصر، فلتضئ البصيرة. للأسف لم ينجح في ذلك كثيرًا، لقد شعر أن النافذتين التين يتلقى منهما الدنيا قد أُغلقت، وأنه محبوس لا فَكاك له. صار يكتوي كل يوم بنار الحيرة، بين طمأنينة الأمل أنه سيعود إلى ما كان عليه، وأن الأمور في المستقبل القريب ستجري كما كانت في الماضي، وبين اليأس والخوف من الظلام الدائم.

 

خاصة إذا تقدم الليل وذهب الناس والأهل، عندها يبلغ به القلق كل مبلغ، ويصير يترقب طلوع النهار دقيقة بعد أخرى، وربما غفا غفوة، ثم استيقظ وهو يظن أن الليل قد انقضى ببؤسه وشقائه، فيحاول الاستماع لحركة السيارات والمارة، لعله يتبيّن منها قرب النهار، متسائلًا هل هي حركة أناس عائدون من آخر سهراتهم أو مستقبلون لبدء نهارهم؟ هل هذه حركة متأخرة أم مبكرة؟ ويظل زمنًا بين رجاء الصبح وخوف الليل، وإذا بالساعة تدق الحادية عشرة أو الثانية عشرة، فيجزع من أنه مقبل على ليل ليس له آخر.

 

وهكذا يقضي ليله عرضة للهموم، وهو في حوار مضطرب، ووساوس مترددة. تنازعه نفسه وتجذبه بين خوف ورجاء وأمل ويأس. تأتيه نفسه متفائلةً بحجة فيطمئن لها ويرتاح، ثم تنتقض عليه متشائمةً بحجة أخرى فيحزن لها ويقلق. وهو معصوب العينين راقد لا يتحرك.
يحاول أن يسلّـي نفسه بدخول مكتبته، فتعاوده الذكرى ويزيد ألمه، ويشعر أنه شخص فيه جوع مفرط، وأمام غذاء شهي، ثم حيل بينه وبين غذائه.

 

وبعد مدة طويلة، شاء الله له بالفرج، فشفيت عينه، ورجع إلى حياته التي يحبها، صحيحًا معافى. وصار ما مر به مجرد ذكرى يرويها، وأحدوثةً يقصها، ذهب ألمُها وبقيت عبرتها.

 

رحم الله أحمد أمين فقد كان صاحب إنجازات كثيرة، تنوعت وتعددت مجالاتها، بين فردية ومجتمعية وعالمية. حتى أنك إذا ذهبت تحصيها، وجدتها قائمةً طويلةً، تصعب الإحاطة بها.

دهشتُ في هذا السيرة، من تنوع إبداعاته العلمية والقيادية، غير أن هذه الصفحات القليلة التي يحكي بهت معاناته مع مرض عينيه، هي المفضلة عندي في هذا الكتاب، وهي بلا شك أكثر شيء أتذكره الآن.

لأن الإنسان ربما يسمع سيرة شخصٍ ويرى أنه حقق إنجازات وأرقامًا ومناصب، فلا يتحمس لها، ويمر عليها مرور الكرام، ثم تشتد أعصابه ويتوتر، ويقف طويلًا عند قصة بسيطة، أو موقف عابرٍ، يحركه من داخله، ويلامس روحه ويهزها، تلك الروح الغامضة، التي لا يعلم دقيق سرها إلا الله سبحانه وتعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top