غرِنوي طفل وُلد في سوق صغير للسمك. أرادت أمه التخلص منه، كما فعلت من قبل بإخوته الأربعة. لم تستطع ذلك، نجى وليدها من خُطتها، صرخ بأعلى صوته ففضح أمرها وأُعدمت!
يرجع بنا باتريك زوسكيند في روايته “العطر” إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر، عندما جاء إلى الدنيا جان باتيست غرِنوي. يوم كانت باريس مقرفة تعج بروائح كريهة تَزكُم الأنوف.
بعد رحيل أمه لم تتقبله المُربيات، لم يُرِدن رعايته ولا رؤيته. حتى المرضعات تَدافعنَه الواحد تلو الأخرى، وأَجمَعنَ على أنه صبي مشؤوم.
فتىً كالشبح، حاول الصبية في دار الأيتام قتله أكثر من مرة لكنهم لم يظفروا منه بشيء.
يُحسب غرِنوي إنسانًا من البشر، بالحد الأدنى من البشرية، وهو الجسد والحياة فقط.
لا يَعرف معنى للحياة ولا للحب، بل ربما لا يعرف طعمًا للكراهية ولا الإعجاب. الطفل غرِنوي كان بغنىً عن الشعور بالأمن والدفء والحنان والحب، أي عن كل هذه التسميات التي يزعم البعض أن الطفل بحاجةٍ إليها، يبدو لنا أنه قد تعمد الاستغناء عنها منذ البداية كي ينجو بحياته.
فيه شيء واحد مميز فقط، ألا وهو أنفه؟!
غرِنوي باختصار ملك عالم الروائح، فتى ضئيل متواضع الطموحات محدود الأهداف. يعرف العالم فقط من خلال أنفه. الرائحة عنده هي العلامة المميزة لكل شيء. غرِنوي أراد أن يختصر العالم في رائحة، حتى جرائمه التي ارتكبها لم يكن له فيها من هدف سوى العبق؟!
لما بلغ الثامنة من عمره، عمل في مدبغ جلود بائس. أتقن العمل، وغرق فيه بكل حواسه، أحب رائحة الجلود وغاص في تفاصيل ما تفوحُ به من روائح، كان يشعر معها بالأمان ولو لم يَستسِغها غيره.
دخل المهنة مصادفة من أوسع أبوابها، وأنقذ كبير صانعي العطور في فرنسا، وبالتحديد في مدينة “غرونوبل” عندما عجز عن الابتكار والتجديد في حرفته. استطاع غرِنوي أن يجعل من عطوره شيئا لا يوصف، وكان بأنفه المجرّد يعرف جميع مكونات العطور ودرجات تركيبها وصيغها، مع أن كلمة “صيغة” كانت جديدة عليه.
كان يخلط العطور بلا قواعد ولا موازين، بيديه العاريتين صنع ما لم يصنعه أحد من قبل. مجهولٌ اقتحم المجال وصار أبرع ممن قضوا كل أعمارهم فيه!
المفاجأة، أن غرِنوي صاحب الأنف الذي استطاع إحصاء كل الروائح -حتى الروائح التي لا ندرك وجودها- وُلد وعاش بلا رائحة؟!
بين الياسمين والنارنج والعنبر وروائح كثيرة لا أعرفها يتشكل عالم غرِنوي. غرِنوي الذي اعتزل البشر في كهفه سبع سنوات، في عيشة مضطربة شاذة، ثم اكتشف أنه لا يستطيع العيش هكذا، فخرج وجرب الاختلاط بالبشر وباء بالفشل أيضًا.
” للعطر قوة إقناع أقوى بكثير من الكلمات، أقوى من الظاهر والإحساس والإرادة، لا يمكن مقاومة قوة إقناع العطر، إنها تتغلغل فينا كما يدخل الهواء الرئتين، إنها تعمر صدورنا، تملؤنا بالتمام والكمال، لا توجد وسائل لمقاومتها”.
بدأ حلمه العظيم في صناعة العطر الكامل، العطر الذي سيجعله إلـهاً للبشر ومتحكمًا بكل شيء حسب ظنه. العطر الذي تطلب قتل خمسٍ وعشرين فتاة جميلة في مقتبل شبابهن، ليستخلص عبقهن من أجسادهن الغضة.
كانت آخرهن وأجملهن لورا التي تعاطفتُ كثيرًا معها ومع أبيها المسكين الذي حاول جاهدًا أن يحمي ابنته لكنه أخفق. حاول أبوها الفرار بكل طاقته، عَمّى وجهته، وافتعل مسرحية لرحيله، لكن هذه الحيلة لم تنطلِ على ذي الأنف الحساس غرِنوي، فقد استطاع أن يحدد مكان لورا وهي على بعد عشرات الأميال، بطيف رائحةٍ أقرب إلى الشعور منه إلى الحقيقة.
بعد إتمامه لجرائمه كلها، ظفرت به السلطات. قرروا إعدامه، فَسكبَ غرِنوي قطرة واحدة من عطره العظيم على جسده، فانقلبت حفلة إعدامه التي حضرها كل أهل المدينة إلى استعراض ماجن تفجرت فيه غرائز الحاضرين، وفقدوا عقولهم، وسكروا بعشق غرِنوي القاتل الدميم، وصار في أعينهم ملاكًا طاهرًا!
استطاع الألماني باتريك زوسكيند تحويل كل شيء إلى رائحة، فكرة عبقرية مبهرة تفتق عنها ذهن هذا الأديب، لاشك أن خياله قد رآى كل شيء قبل أن ينقله إلى عالم الورق. باختصار صنع لنا تحفةً لم يشمها أحد من قبل.
برع في وصف عالم العطور وتقطيرها وتحضيرها، لا شك أنه سيستفز أنف كل من يقرأ القصة.
تأثرتُ بالقصة، وأخذت أحاول استنشاق أشياء لم أعرف لها رائحة من قبل. أعترف أن أنفي لم يكن ذا كفاءة.
شدتني هذه القصة بتفاصيلها، وكنت أختلس دقائق من يومي وألتهم سطورها بنهم، حتى وأنا في عملي، نزلت إلى مواقف السيارات وجلست في سيارتي أقرأ عدة صفحات لم أصبر عنها.
بعد أن اقتربت من نهاية القصة علمت أن لها فيلمًا سينمائيا أُنتج عام 2006. الحمد لله أنني قرأت الرواية قبل مشاهدة الفيلم، فمهما كان الفيلم متميزًا، فإن الخيال في عالم “العطر قصة قاتل” لن يُنقل على الشاشة ولو بعد عشرات السنين.
فاقت الرواية توقعاتي، مع أن النهاية لم تعجبني كثيرًا، إلا أنها ومثل كل النهايات، نهاية غير متوقعة.