العيش في المدن سلوك بشري قديم.
هي ليست أول مسكن لبني آدم فقد سبقتها القرى والكهوف والبراري. ثم نشأت الدول، وهي ملازمة للتمدن والاستقرار، ومن أولى أولوياتها توفير الحماية والأمان للسكان. فكانت المدن مركزًا للجيوش ومقرًا للحكم، وحضنًا كبيرًا يضم رعايا الدولة ويحميهم.
فيما مضى كنت أظن أن الناس أنشأت المدن في الأماكن الفسيحة، ولأنني كنت صغيرًا لم أتعلم بعد أن أمد الفكرة إلى مدى أبعد من ظاهرها السطحي، كنت أستغرب من كثرة الأراضي الفضاء وأقول لماذا لا تنشأ المدن هنا!؟ علمت فيما بعد أن الناس تختار إنشاء المدن لأسباب واضحة، أهمها الاجتماع حول المياه الجارية والأراضي الزراعية الخصبة، والمواقع الجغرافية المهمة مثل مفترق الطرق أو سبيل الحاج أو الأراضي الوفيرة بالثروات الطبيعية بغرض تسهيل التجارة والتبادل الاجتماعي والثقافي بين الناس.
في القرن العشرين، تحولت المدن إلى مراكز صناعية وتجارية وثقافية. كبرت وشبّت عن الطوق، واستبدلت الوبر والخيام والطين، بالإسمنت والصلب والزجاج والخرسانة المسلحة، وأصبحت قادرة على تلبية احتياجات السكان واستيعاب أعدادهم المتزايدة.
أعداد المدن اليوم بالآلاف، لكن هل كلها تستحق أن يعاش فيها؟
بالطبع لا.
لا أقصد المدينة الفاضلة التي تحدث عنها أفلاطون والفارابي فتلك مدن تفترض أن الأساسيات قد انتهت وأن كل ما تحتاج إليه موجود فيها. وهي مدن تعيش ترفًا لا ضرورة، بل أتحدث عن المدن المعاصرة، الأحياء والمخططات التي نعيش فيها اليوم.
ليست كل المدن في بداياتها على قدم سواء. بعضها نشأ قبل مئات السنين يوم كانت الطرق والأزقّة للدواب والراجلة (من يمشون على أرجلهم) قضت زهرة شبابها وكهولتها هادئة ساكنة، ثم فاجأتها جيوش السيارات ووسائل النقل العام في القرن العشرين، التي انفجرت صناعتها وأصبحت أعدادها بمئات الألوف أو ربما بالملايين. وبعضها أنشئت في العصر الحديث وأخذ في الاعتبار عند تخطيطها وتصميمها كثير من العناصر المؤثرة، فمن الظلم عقد مقارنة بينهما.
بوجه عام، هناك العديد من العوامل التي تجعل بعض المدن ممتازة للعيش فيها، وهي خطوط عريضة قد تحمل في طياتها عشرات المشاريع والبرامج، ومن أهمها:
سلامة وأمان
تعد السلامة والأمان، من أهم العوامل التي تجعل المدينة مناسبة للعيش فيها. إنها حجر الأساس التي بنيت عليه المدن والدول. يجب أن يشعر الأفراد بالأمان في المدينة. نعلم يقينًا أن المدن لا تخلو من الجرائم، لكن معدلها يجب أن يكون منخفضًا. إن الساكن الخائف لا يستقر ومن لا يستقر فلا مدينة له، هو مسافر مرتحل ولو كان بين أربعة جدران.
اقتصاد متين
المال عصب الحياة، والناس تبحث دائمًا عن فرص عمل كافية، وتخاف معدلات البطالة العالية. قال “الأولين” قبل مئات السنين: ديرتك اللي ترزق فيها، ما هي اللي تولد فيها؟
قد يكون هذا المثل براغماتيًا، ولا يناسب طبيعة الناس في الماضي، لكن أغلب الناس مضطرة لقبوله والتعايش معه، لأنه هو الكلام الذي “يبيع” في نهاية الأمر. أما أحسن السيناريوهات، وأجمل الأقدار، فهي أن تولد في قرية، وأن ترزق فيها أيضًا.
نظام صحي
المستشفيات وتوفر الدواء ضرورة. حتى القرى في الماضي كانت تضم طبيباً أو حكيماً وقابلة، فهذه أمور أساسية لا غنى للناس عنها. يردد الناس دائمًا إذا رأوا مستشفى، أو سمعوا بدواء جديد: “أغنانا الله عنها بالعافية”. هذا كلام طيب، ودعوة أسأل الله أن يحققها لنا جميعًأ، ألا أن العافية قد تكون في صورة لقاح تأخذه، أو طبيب تستشيره، أو حقنة تخاف منها. النظام الصحي القوي، والمتاح بتكاليف معقولة، يشعر الناس بالأمان، وأنهم لن يضطروا إلى الانتقال لمكان آخر عندما يتقدم بهم العمر أو تخذلهم الصحة.
تعليم منتج
التعليم مشكلة أزلية، يعاني منها أهل القرى والمدن. قد تقتصر القرية النائية على تعليم بسيط يناسب احتياجاتها ويفي بمتطلباتها، إلا أن المدينة كائن ينمو دائمًا، يريد العيش ويتمسك بسبب للمنافسة القوية والسوق المحموم. وهذا يستلزم وجود حواضن تعليمية متميزة لكافة المراحل، بشرط أن تكون جيدة وبتكلفة في متناول أيدي الناس.
ثقافة وترفيه
الثقافة هنا شاملة عامة، هي إلى معناها الغربي أقرب منها إلى المعنى الشرقي. الثقافة التي تشمل الفنون والآداب والتاريخ والعادات والتقاليد الاجتماعية والديموغرافية وغيرها من العوامل التي تشكل شخصية المجتمع. فكما أن للناس حاجات أساسية، فإن لهم رغبات كمالية. الإنسان كائن ذو نفس طُلَعَة، لا يكفيه أن يعيش على حد الكفاف فقط. بل هو يريد التميز، يريد أن يكون سيدًا للكون متمتعًا بما فيه. يسوؤه جداً أن يعيش بالضروري من المأكل والمسكن فقط.
المدينة التي تستحق العيش فيها تراعي ذلك. إنها تستلهم تاريخها وتراثها، ورحلتها الطويلة، وتجعل منها منارة للثقافة وفسحة يترفه منها أهلها، ويروّحون بها عن أنفسهم. وتشتد الحاجة إلى ذلك كلما احتدت المنافسة، وغرق الناس في العمل واكتساب لقمة العيش، على عكس ما نظنه من أن المشغول غارق في عمله ولا يلتفت لشيء.
كفاءة نقل
كان هنري فورد، مؤسس شركة فورد للسيارات، من أبرز الشخصيات التي تركت بصمة كبيرة على تطور المدن في القرن العشرين. لقد كان مهتمًا بتصميم المدن، وجعلها مكانًا أفضل للعيش فيه. وقد قدم العديد من الأفكار والمبادئ لتطوير المدن الحديثة. ومن أبرز ما تركه لنا أنه جعلنا ننتقل من المدن التي صممت للبشر إلى المدن المصممة للسيارات. المدينة التي يتوسطها طريق رئيسي يتقاطع مع طرق فرعية، وتوزع الأحياء السكنية حول هذه الطرق لتسهيل الوصول إليها.
مدينة تغص شوارعها بالناس كل صباح. يتنافسون على دخول هذه الطرق، ولا يصلون إلى وجهاتهم إلا بعد أن يكونوا مسحوا حسناتهم التي اكتسبوها بالأمس، وتقاذفوا شتائم من القاموس ومن خارج القاموس. وهم في ذلك متساوون كلهم ظالم ومظلوم، فمن تسبه يسبك أو يسب غيرك، ومن تقذفه يقذفك أو يقذف غيرك، فالظلم عرف والكلام “الطيب” منتشر.
المدينة التي تستحق العيش فيها تكون مهمة التنقل فيها مهمة ليست صعبة – ولن أقول سهلة – تسمح بالحركة والتنقل بوقت معقول وتكلفة يسيرة. وليست معيقة لمن يريد الخروج وتجعله يعد للعشرة قبل أن يقوم من مقامه. باختصار: وسائل النقل المختلفة فيها متاحة وميسرة.
بيئة طيبة
وهذا عامل مهم وحساس يحفظ صلة الرحم بيننا وبين كوكبنا الأزرق. الجمال والنظافة والمساحات الخضراء والحدائق العامة الطبيعية، هي الرئة التي تتنفس بها المدينة، وتقاوم بها قسوة الأسفلت وقبح الأرصفة.
ليس هذا كل شيء فالعوامل أكثر من أن تحصى. منها ما لا يد للبشر في تغييره، كشروط الطبيعة والجغرافيا، مثل الأرض المنبسطة والمناخ المعتدل. ومنها ما يتعلق بالبشر مثل المجتمع المتسامح والتنوع الثقافي وغيرها. ومنها عوامل التراث والعمق التاريخي، كأن تكون مدينة لها قصة خاصة، أو تكون مدينة عريقة أو مقدسة.
أعتقد أن المدن الممتازة هي المدن المتوازنة، التي لا يطغى فيها شيء على حساب شيء.
هذا أمر صعب في الواقع، فكيف تكون صحية ومزدهرة بدون صناعة أو حركة مرورية خانقة، أو أسعار مساكن خيالية. المدينة الذهبية تجمع لك دخلًا جيدًا، ومكانًا مريحا مناسبا لقضاء حياتك العملية وغير العملية. هي معادلة صعبة.
لو كان الأمر لي لاخترت العيش في مدينة يكون فيها عدد السيارات قليلًا، وتجعلني من حسن تخطيطها وطيب جوّها، أصل كل ما أحتاج إليه ماشيًا. مدينة تجمع لي حياة ليلية ممتعة، وسكونًا يبعث على السعادة وطيلة العمر. مدينة لا هي طاحونة عملاقة، ولا هي قطعة أثاث هامشية في رف مطبخ مهمل. هذه ستكون مدينتي الفاضلة.