كما تعلمون جميعًا، فإن مسألة الانتقال إلى منزل جديد طويلة متعبة، لا تنتهي تفاصيلها، وقد تمتد الى ما لا نهاية، إن أعطيت نفسك هواها ولم تحملها بالعزائم.
رسمت خطتي، وقررت أن أنقل أثاث البيت على مراحل حتى تكون العملية أسهل، وبدأت بنقل الأشياء حسب حاجتي إليها، فما أحتاج إليه دائمًا جعلته آخر ما أنقله، ثم ما يليه، وهكذا حتى وصلت إلى غرفة النوم.
كان المعلم حماده (وسوف أكتبه بالهاء)، هو الشخص المناسب دائمًا في مثل هذه الظروف، فبيننا علاقة شخصية، تجعله يلبي النداء إذا طلبته فورًا، وهذه ميزة عندي لا تقدر بثمن.
أثق بالمعلم حماده، وقد اشتغل معي كثيرًا، وما كسر لي تحفةً، أو فقدت بعده شيئًا مهمًا. لم يخن الأمانة قط. ولذلك، أغفر له ما قد يحدث من تقصير في العمل، فالأجير إذا حقق شرط الأمانة يُتسامح عنه في شرط القوة.
قام المعلم حماده بنقل الاثاث بالشكل المطلوب، وفي يوم جمعة بارد، تفوق المعلم حماده وفريق عمله على أنفسهم، وكسروا الرقم القياسي السابق، وانتهوا من كل الأعمال قبيل صلاة المغرب.
شكرتهم بحرارة، ونقدتهم المبلغ المتفق عليه، أو بالأصح حولته للحساب البنكي للمعلم حماده. بعدها، سألني حماده بتردد عن وجهتي لعلها تكون قريبة من المكان الذي يريد، أشرت له بسرعة ألا يستمر بتبرير موقفه. وقلت له باقتضاب: “اركب معي أوصلك”.
صلينا المغرب، ثم اتجهنا لمكان المعلم حماده عند حديقة شهيرة، وبالطبع في شمال الرياض. وعند الحديقة مررنا بجانب عربة تبيع البليلة، أجل البليلة الشهية، التي نحبها نحن والأخوة المصريون. تجاوزتها، ثم وقفت، ورجعت إليها، وقلت للمعلم حماده: “والآن يا حماده أحلى بليلة تنزل لي ولك”. قال لي: يا باشمهندس سانزل أشتريها لك، وانا لا أريد شيئًا!
تعجبت منه، فهذه أول مرة أعرض خدماتي عليه بهذا الشكل الودي المباشر، غنيمة باردة أقدمها له، فلماذا يردها!؟
قلت له: حماده ألا تأكل البليله؟ قال لي يا أستاذ طارق انا لا آكل من أي شيء بالشارع أبدًا، ولا المعلبات، ولا حتى اللحوم إلا إذا كانت من شخص مضمون!؟
دُهشت من إجابته، وتوقعت أن هذه الرفاهية في الأكل، خيار تمارسه الطبقة المخملية، وقد يتظاهر به بعض أفراد الطبقة الوسطى، ولم يدر بخلدي أن تأتي هذه الكلمة، من عامل بسيط باليومية. أحببت النقاش واسترسلت معه، وسألته عن سبب امتناعه عن كل ما ذكر؟ فأجابني: أنه لا يستطيع المغامرة بصحته، وأكل شيء مصنع، أو غير طبيعي!
يقول حماده: جسمي وصحتي هي رأس مالي، لو مرضت أو أصيب ظهري أو تعورت رجلي، لجاع عيالي، ولما استطعت كسب قوت يومي. صحتي وقوتي، هي استثماري الأكبر، وأنا لست مستعدًا لتعريضها للمخاطر.
انت يا بش مهندس قد تمرض أو تنكسر رجلك – لا قدر الله – ومع ذلك تستمر بالعمل والتكسّب ولا يعيقك ذلك، لكن أنا حيلتي هي جسدي، ولو تدهورت صحتي سأصبح فقيرًا في اليوم التالي.
اعترف أنني لم أتوقع هذه الإجابة أبدًا، أثارت فيّ مزيجًا من الإعجاب والرحمة، وكبر في عيني المعلم حماده، وقدرت تضحيته وصبره. ثم رجعت إلى نفسي، ووبختها على ما تصنع، على تبرمها وكثرة شكواها، فهي تعاني الهم ولا من هم، وتقلق ولا من مُقلق، إنما هي الرفاهية، والراحة، والدعة.
مساكين والله، أولئك الذين يكسبون قوت يومهم بأجسادهم، حياتهم على كف عفريت، وبين عشية وضحاها قد تنقلب رأسًا على عقب. ماهي مشاعرهم عندما يتجاوز الواحد منهم سن الأربعين، ويدرك أن قوته لم تعد كما كانت!؟
كيف يواجهون الشروط البيولوجية الصارمة، التي تقول لهم كل يوم، شبابكم إلى شيخوخة، وقوتكم إلى ضعف!؟ سبحانك يا رب العباد، كم في الدنيا من ضعاف لولا لطفك لهلكوا.
زادني ألمًا على المعلم حماده، معرفتي بأنه يعول زوجته وبناته الثلاث وحده، وأنه لا رازق لهم بعد الله إلا هو، وتمنيت أن يمده الله بالعمر الطويل والصحة الوافرة، وأن يرزقه رزقًا يغنيه إلى ولد ولده.
بالمناسبة، فرح المعلم حماده عندما أحضرت له قهوةً وحلا “شغل بيت” وابتسم قائلًا: “يا سلام طبخ بيت، يدوم عزك يا باشا”.