اِرجع بالذاكرة إن كنتَ ممن جاوز الثلاثين إلى أيام دراستك الابتدائية، تذكّر الأحاديث التي كانت تدور بينك وبين زملائك، آراءكم ومفردات كلامكم، ستكتشف أنها متقاربة جدًا، لا تكاد تتعارض.
لقد كان التلفاز والراديو والوسائل الشائعة حينئذٍ تُشكّل اهتمامات ذلك الجيل وثقافته، وعوامل التربية المتقاربة بين أفراده. الناس في مجتمعهم الصغير يتداولون أفكارًا متقاربة، وتجارب لا تختلف كثيرًا عن بعضها.
من الصعب أن تجد طفلًا لم يشاهد حلقات طاش مثلًا، أو أفلام الكرتون -التي صار اسمها بعد ذلك الرسوم المتحركة وإن كنت أفضل اسم أفلام الكرتون- لقد صارت شخصيات “الرمية الملتهبة، والنمر المقنع” … وغيرها مما يعرض في الشاشة الصغيرة، عنصرًا من عناصر المنزل، لا يُستغرب وجودها أبدً.
كانت “الجوهرة” (Crystal Maze) أو الفوازير وسباق المشاهدين، مشتركات ثقافية لسنوات طويلة. لقد أضحت الأعمال المرئية والمسموعة والمقروأة تصنع ثقافة جيل بأكمله، وتُساهم في تكوين رؤية خاصة به، يرى العالم من خلالها. إطارٌ جعل أفراد ذلك الجيل متشابهين، لا يختلفون كثيرًا عن بعضهم.
ومنذ ذلك الحين، بدأت الأمور تتغير تدريجيًا ببطء وهدوء حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن. اليوم، لا يكاد أحد يتعرّض للمؤثرّات نفسها التي يتعرض لها آخر في مثل سنّه أو بيئته، حتى لو كانوا إخوةً في بيت واحد!
كنتُ أسمع باستغراب قبل أكثر من عشر سنوات أن الناس في كاليفورنيا مثلًا، مختلفون ومتباينون. قسيسٌ أخوه ملحد، وجمعيّات ونقابات تؤمن بأشياء غريبة لا تخطر لك على بال. أفراد كالكواكب المعزولة يتبنّون وجهة نظر في الحياة لا يشاركهم فيها الأقارب ولا الأباعد.
كل إنسان عالم متكامل من النظريات والأفكار التي تتغيّر باستمرار. يتعرّض لآلاف الرسائل اليومية، تحمل كلٌ واحدة رسالة غير الأخرى.
أدركتُ اليوم معنى الفردانية أو التفرّد، التي كنتُ أسمع عنها. صرتُ أراها رأي العين، وأشعر أننا ماضون في طريق الفردانية بسرعة.
ولّى جدول البث اليوميّ إلى غير رجعة، وانتهى الوقت الذي تنتظر فيه المحتوى الذي تُحبّه حتى تُدركَه. الآن كل شيء موجود تحت الطلب، ولا يريد منك إلا قليلًا من الانتباه. وأنت الممتنّ عليه في ذلك أيضًا!
زِد على ذلك انخفاض تكلفة إنشاء الأعمال وعرضها على الجمهور اليوم. حيث يستطيع من لديه وصول إلى الإنترنت، وقليل من الوقت أن يكون مُنتجًا مؤثّرًا لا مُتلقيًا متأثرًا.
في الماضي كانت الثقافة مركزية ومنظّمة. فأنت تتوقّع أن إخوتك وزملاءك شاهدوا ما شاهدت وقرأوا ما قرأت. أمّا اليوم فهذا أبعد ما يكون عن الواقع. والمركزية التي كانت جسمًا قويًا، أمست متشظّية لآلاف القطع الصغيرة.
ماذا عن المستقبل؟
لن نكون بمعزل عن هذا التشظّي، فكلّنا في مركب واحد. لا أستبعد أن أجد شخصًا بعد عدة سنوات، بينه وبين أخيه الذي نشأ هو وإياه في بيت واحد كما بين المشرق والمغرب. نعم، لقد شاهدنا هذا الفيلم من قبل.
من الجميل أن يكون لكلّ إنسان رأي يَعتدّ به، وطرقٌ في الحياة اختارها عن قناعة ورأي. لكن ذلك الجمال يحمل في طياته اختلافًا وشذوذًا لا بدّ منه. لا يمكن أن تختار كل شيء بنفسك ثم تتوقع من غيرك أن يُشابهك. الفردية ستمضي مع الزمن حتى يكون الإنسان كالفهد الصياد. يصطاد فريسته ثم يصعد بها إلى الشجرة ليأكلها بنهم… وحيدًا!