أنا شخص، أعتبر نفسي، واقعًا في المنطقة الفاصلة بين جيل الطيبين، والجيل الذي يليه، فلست من الكهول الذين يحنون كثيرًا إلى الماضي، وتتسع ابتساماتهم عندما يبدأ شخص بالكلام عن الماضي وذكراه، ولا من جيل الايباد الذي لا يعرف جهاز الفيديو، ولا مجلة ماجد الأسبوعية.
يتميز جيل الطيبين بأنهم دائموا الحنين. يحنون إلى ملابسهم، إلى ألعابهم، ودفاترهم وأقلامهم، إلى بساطة ما يفرحهم، وتواضع طموحاتهم، وسعة دنياهم.
يوم كانت المدنية قليلة والبساطة طبيعة لكل شيء، والناس متفقون، وطريقتهم معروفة. قبل أن نعرف النسبية، وتأتينا الاستقلالية، ويكون لكل شخص رأي خاص يتشدق به ويتفاصح.
زمان قديم. يوم كان الناس متشابهين في بيوتهم وسياراتهم وأسمائهم، وطموحاتهم. أيام الوقت الطويل المليء بالبركة الذي نفتقده، وقت الفراغ الذي شكل التلفزيون أهم فعالية فيه، وكان كافيًا مؤديًا للواجب، بالرغم من أنه كان “نص دوام”.
كانت الأسرة الممتدة تسكن مع بعضها، الأب والأم في جناح مع أطفالهم، والعم له جناح أو غرفة، والجد والجدة أيضًا وربما أعمام الآباء أوأخوالهم، كان مجلسهم واحدًا، ومطبخهم واحدًا، وجيرانهم من أهل البيت، ولا يستغرب أحد ولا يستنكر أن تدخل الجارة البيت مباشرة وتأخذ ملحًا أو كبريتًا من المطبخ، فالحياة هكذا والوضع مستمر.
لحظة، هل كانت الحياة بكل ما فيها جميلة فعلًا؟
الحقيقة أن جيل الطيبين، كان جيلًا متشوقًا للتغيير، كغيره من البشر. جيلٌ يتمنى الأمنيات المشروعة، كأن تصبح حياته أسهل، واستقلاليته أكبر، لكنه كان مضطرًا لخوض الحياة بالشكل “الطيب” الذي يتذكره فيتنهد تنهيدة طويلة.
جيل الطيبين كان بالنسبة لمن سبقه من جيل الخمسينات والستينات، جيل الخايبين، عديمي الأخلاق، الجيل المغضوب عليه، الذي يشكرون الله على أنهم ليسوا من أهله.
لقد صار جيل الطيبين وبشكل تلقائي ينحاز لحياته السابقة، يشتاق إليها كذكرى حميمية، يشعر أنها كانت جميلة دائمًا، وينسى معاناتها وعيوبها التي صاحبتها.
حياةُ جيل الطيبين الآن أسهل، وأجزم لو أننا وضعناهم على المحك، وخيّـرناهم بالرجوع لذلك الزمان او البقاء في هذا الزمن، لاختار كثير منهم البقاء، فالمزايا كثيرة والحياة يسيرة. لكننا ننسى، وننظر دائمًا إلى الماضي نظرة وردية.
أعزو كثيرًا من الاشتياق للماضي بأنه حنين لحياة الشخص نفسه، حياته يوم كان شابًا حرًا قليل المسؤوليات وافر الصحة، ليس مطالبًا ببيت ملك، وسيارة جديدة لابنه، أو بالحرية المالية التي تجعله يقدم استقالته ويعيش شغفه.
حنيننا الى الماضي في جزء كبير منه، هو حنين إلى ما مضى من أمرنا نحن وراحتنا نحن. وليس للماضي من أجل سواد عينيه، ولو رجعنا إليه بوضعنا الحالي لندمنا أشد الندم على التفريط في حياتنا الحالية.
بعد عشرين سنة أو ثلاثين، سيتذكر الأربعينيون والخمسينيون زماننا هذا، ويسمونه جيل الطيبين، أو الجيل الأبيض، الذي هو مقياس للحياة الرائعة، فهو على حد زعمهم، ليس معاناةً جافةً كالجيل الذي سبقه، ولا منفلتاً ماديًا كالذي لحقه. هو جيل البركة الذهبي، الذي صار من لم يدركه كأنه لم يعش!؟
لا داعي لأن نستغرب من ذلك أبدًا فهذه طبيعة الانسان، ونحن لسنا مختلفين عمن قبلنا. ستجد في كل جيل كهولًا يحنون لجيلهم الطيب، الذي اعتادوا عليه، ويشتكون من سوء حال الناس في زمانهم المعاصر، فقبل ألف وخمسمئة سنة (الرقم ليس دقيقًا) قال الشاعر لبيد بن ربيعة رضي الله عنه:
ذَهَبَ الَّذينَ يُعاشُ في أَكنافِهِم
وَبَقيتُ في خَلفٍ كَجِلدِ الأَجرَبِ
مقال جميل
إبداع