لا أتصور العالم بلا قهوة، وأتخيله كئيبًا، لا حياة فيه. أحمد الله أنني من الأجيال القهوائية التي تنعم اليوم بهذا المشروب الساحر، كيف لا؟ وروح القهوة تنتشر في كل مكان.
أجزم أنك لو فتحت السناب في أي وقت من اليوم، لوجدت صورة لقهوة تحتل كوبًا أنيقًا. خمر الصالحين، التي تسكب في وعاء صغير بلا مقبض، كبير الفم صغير القاعدة، يسمونه الفنجان وإن كنت أحب تسميته بالفنجال.
القهوة المباركة ذات الرائحة الطيبة، الخفيفة عديمة السعرات الحرارية، صاحبة العادات والأعراف المحترمة.
أحببتها سعودية عربية، واستهلكها أمريكية وإيطالية وفرنسية. لا يعنيني كثيرًا أن تكون من غابات نهر الأمازون، أو من أعالي جبال الهندوراس، أو سهول إثيوبيا، لأنها جميلة في كل حالاتها ورشيقة في كل الثياب التي تلبسها.
تجعلنا نتحمل ثقل الاجتماعات التي لا داعي لها، ونصبر على سماجة كثير من عباد الله الذين لولا القهوة لتشابكنا معهم بالأيدي والأرجل. هي من أفضل الأعمال التي تنشغل بها عندما لا تجد شيئًا يشغلك. لست وحدك، فبلايين الأكواب تستهلك يوميًا حول العالم، وهذا يجعلها أكثر سائلٍ مبيعًا بعد البترول.
من أين أتت هذه الحسناء، وما قصتها؟
القهوة عربية المنشأ، ويقال أنها اكتشفت في أرض اليمن، عندما رأى الفقيه الشاذلي اليماني الماعز التي ترعى بجوار كهفه نشيطة متوثبة، شـدّه هذا الأمر وفكر فيه، وبحث عن السر، ثم اهتدى إلى شجرة البن وغلا ثمرها، وشرب الماء المغلي.
طبق المنهج التجريبي، وقاس الأثر على نفسه. وجد للقهوة نشاطًا في جسده، وحدّة تركيز في ذهنه. أحب طعمها وصار يقدمها لمن يزوره وذلك في القرن التاسع الهجري.
بعض المصادر تؤكد أن القهوة أفريقية الأصل، وإثيوبية على وجه الخصوص. فنحن نرى القهوة جزءاً أساسياً من الثقافة الإثيوبية، ظهرت في العديدِ من التعبيرات التي تتحدث عن الحياة والأشخاصِ والطعام، والدليل على ذلك القهوة الإثيوبية الشائعة، والمعروفة باسم “بونا دابو ناو” وتعني “القهوة هي خبزنا”، وهذا يعني أنَ القهوةَ هي المصدر الأساسي للرزق عند كثير من الإثيوبيين، وأن دورها في الحياة الإثيوبية مهمٌ وجوهريّ.
يخبرنا التاريخ أن تجارة البن ازّينت وأخذت زخرفها في أرض اليمن، وأضحت تُصدّر من اليمن إلى جميع أجزاء العالم، عبر ميناء المُخاء “Mocha” التاريخي. وينطق الاسم في الانجليزية “موكا” وهو الاسم المشتق منه مشروب الموكا الشهير الذي شاع في كل أوروبا، وبالذات في إيطاليا وفرنسا.
بعد ذلك ازدهرت سوق البن في شبه الجزيرة العربية، وشاعت القهوة في القرن السادس عشر في مكة المكرمة، وكان الوالي على مكة حينها خيري بك التركي.
اكتشف الوالي وهو يتفقد الاستعدادات لموسم الحج أن الناس يتناولون القهوة في تجمعاتهم ونواديهم. لم تعجب القهوة الوالي. ارتاب منها، وزعم أنها مسكرة وأمر الناس بعدم تناولها ووجه الجنود بإتلافها، وزاده تصميمًا على موقفه أنه وجد تأييدًا من بعض الفقهاء الذين حرموها، ولاحظوا أنها دائمًا قرينة للتنباك والدخان وعدوها معهم من جنس واحد.
بالصدفة اكتشف الوالي أن زوجته (تتعاطى) القهوة الممنوعة بكثرة وكان يحب زوجته جدًا، ويراها في أحسن حال، وبالتجربة ثبت له أن القهوة لا تسكر ولا تضر، أخذ فتوى بذلك، وصارت القهوة مسموحة. بالطبع فمن أجل عينٍ ألفُ عين تكرم.
مع الوقت أعجب الوالي بالقهوة جدًا، ولما زار السلطانَ طلب منه أن يسمح له بافتتاح متجر للقهوة يطل على البسفور ويقدم القهوة للناس. وافق السلطان، فكان هذا أول مقهى يفتتح في العالم، مقهى خيري بك عام 1511م.
نعم “بزنسها” بعد أن كان يحاربها!؟
في أوروبا عندما حاصرت الجيوش التركية مدينة ڤيينا، وقُطعت الإمدادات عنها، وأصبح سقوطها وشيكًا، خارت عزيمة المقاتلين وأيقنوا أن الهزيمة قادمة، وتمنوا لو تمكنوا من طلب الإمدادات، ليصمدوا في الحصار. في هذا الوقت العصيب، ذهب رجل بولندي إلى القائد العسكري، وعرض أن يخترق الحصار شمالًًا ويطلب الإمدادات، بشرط أنه إذا انتصر الجيش النمساوي يكون البن الموجود مع المعسكر التركي كله ملكًا له.
وافق القائد، ونجحت خطته، وطلب المدد. ولما انسحب الجيش التركي نُفّذ الشرط، وتملك الرجل البولندي جوالات البن (جمع جِوال: وهو الكيس الكبير)، ثم افتتح سلسلة مقاهي وكان ذلك عام 1683م. ومن هناك بدأت القهوة تشيع في أوروبا كلها.
وكما كانت للقهوة حكاية في الشرق فإن لها حكاية في الغرب، سأكملها في المقال القادم بإذن الله.