كتيبة من الديدان!

“كتيبة من الديدان”

سِفر لطيف ماتع، اتحفتنا به الكاتبة السعودية بشرى الأحمدي ونعم ما فعلت.

كتاب يتنقل بنا بين جِنان القراءة والكتابة وما اتصل منها بسبب. قد تستغرب من اسمه واشتقاقه، وكيف صارت الديدان علمًا للقراءة!؟ إلا أن فيه نكتة عَقّاديّة (منسوبة للعقاد) لما قال لمن وصفوه بأنه دودة: “تصفونني بأني دودة كتب! أنا كتيبة من الديدان”.

 

فيه ثلاثة بساتين: القراءة، والكتابة، والمكتبات. في كل بستان منها روضة شديدة الاخضرار، وجدول نهر عذب صافٍ يأخذك في ثنايا البستان حتى تتمنى أنه لا ينتهي.

 تتحدث الكاتبة تجربتها وتقول: لقد شكّلت القراءة أهمية خاصةً لديّ منذ سنٍ مبكرة. أنشأتُ فريقاً ثقافياً لتبادل الأحاديث حول الكتب وتوصيات القراءة. نظمتُ العديد من النشاطات المتمركزة حول القراءة. كما حاضرتُ في العديد من المنصّات لتقديم خلاصة خبرتي وقراءاتي في مجال الببليوجرافيا.

يبدو أن كل ذلك الحديث عن معشوقتي لم يكن كافياً “وأن الوصفة تكمن في الرغبة المؤلمة للكاتب بأن ينقل شيئاً يحسّ أنه مهم للقارئ” كما يقول جون شتاينبك. نعم رغبتُ أن أقول شيئاً عن الكتب.

ثم إنها تتردد في مشروعها، وكأني بها تتساءل مالذي سيقال عن القراءة والكتابة أكثر مما قيل!؟ أليس كل الصيد في جوف الفرا!؟ أليست الكتب تكاد تغص بهذه المواضيع فما الذي سيضاف؟؟

 

أشهد أنني وجدت فيه جديدًا، وصار فاكهة قرائية لي، استمتعت بها مدة من الزمن، إذ كنت أقرؤه على مراحل، جرعات صغيرة أدخلها بين ثنايا كتاباتي، وقراءاتي، والمهام التي علي، وربما اشتد الولع بي، وهبت رياح الاستمتاع والقراءة فاغتنمتها وطالعت منه جزءًا صالحًا دفعة واحدة في جلسة واحدة. لا يحدث هذا مع كل كتاب طبعًا، وإن حدث فلا بأس أثناء حدوثه من تجاوز الخطط ولخبطة المهام الأخرى قليلًا.

 

أذكر أنني استمتعت جدًا بمكتبة “شكسبير وشركاه” التي أُنشئت عام 1964م، في الذكرى الـ400 لميلاد الأديب الإنجليزي العظيم.

“شكسبير وشركاه” مكتبة توفر آلة كاتبة لمرتاديها، وبيانو يعزف عليه كل موسيقي هاوٍ، ومقاعد مريحة يجلس عليها القراء ويقرأون ما شاءوا أي مدة لبثوا.

تسمح لهم بالمبيت فيها مجانًا، إلا أن صاحبها يطلب من مرتاديها ثلاثة أمور: أن يقرأوا كتابًا، وأن يقوموا ببعض الخدمات اليسيرة في المكتبة، وأخيرًا أن يكتبوا بضع صفحات عن ذكرياتهم فيها. ومع مرور الزمن ضُمت تلك الأوراق لأرشيف المكتبة، وصارت سيرة ضخمة تخبر عن تاريخ حافل لكل من مر بها أو مكث فيها.

إرنست همنغواي، جورج أورويل، سكوت فيتزجيرالد، وغيرهم كثير. ذكرت هذه المكتبة  في المذكرات وكتابات الأدباء، ولها نصيب من الظهور  في الأعمال السينمائية مثل (before sunset). هذا مثال على زهرة من الروض، وقطرة من النبع العذب، استمتعت بها في هذا الكتاب اللطيف.

 

“القراء لا يسرقون واللصوص لا يقرأون” تخبرنا الكاتبة كيف أنها ضحكت كثيرًا من هذه العبارة، وهي تتذكر كيف أنهم كانوا مؤمنين بها، إذ نظموا فعالية لإعارة الكتب بهدف قراءتها مدة معلومة تبلغ أسبوعين أو قريبًا منها. غير أن السرقة الجماعية حصلت، وأقدمت قبيلة القراء على تملك الكتب التي استعارتها وصاروا لصوصًا للورق، ولم يغن ما كتبوا للمنظمين من أرقام ووسائل تواصل خاصة بهم، لأنهم ببساطة لم يكونوا يتجاوبون مع من يتصل بهم!!

 

في صفحات نفيسة من فصل القراءة، تأخذنا المؤلفة حول تساؤلاتها التي تعبر عن كل القراء. فمثلًا تتناول أول سؤال يتبادر إلى ذهن من يقرأ وهو: لماذا أقرأ؟ لماذا أصرف وقتي في هذا الأمر؟ بالنسبة لي أنا، من يسأل هذا السؤال هو في الغالب لا يقرأ أصلًا، أو يقرأ قراءة مدرسية منهجية، بهدف الوصول لحقيقة معينة أو إنجاز شيء واضح محدد.

أما ما نقله لنا الكتاب عن “ويندي ليسر” فقولها: “يمكن أن تقودك القراءة للملل أو السمو، الغضب أو الحماس، الاكتئاب أو المرح، التعاطف أو الازدراء، وهذا يتوقف على طبيعتك، وكيف يشكل الكتاب حياتك في اللحظة التي تقرأ فيها”.

 

اسأل أي قارئ للأدب إن كان يجد ما يحدث معه شخصيًا أكثر أهمية مما حدث ويحدث كل يوم على صفحات الكتب؟ وسيجيبك أن الحياتين بذات القدر من الأهمية. يقول بهاء طاهر: “تصبح أحداث الرواية وأشخاصها عالمي الحقيقي، ويمسي العالم الخارجي مجرد شبح وتطفّل مزعج على دنيا الرواية”.

قارئ الأدب يتوحد مع شخوص الرواية، يحزن لمآسيهم وإن كانت حياته رغدة، ويفرح لهم ولو كان قلقًا يصارع أمرًا شخصيًا. أشبّه ذلك بحياة في أثناء الحياة.

 

استمتعت به جدًا، وهو يستحق القراءة ولاشك. كتاب من الحجم المتوسط صادر عن دار أثر، ويقع في 200 صفحة تقريبًا، سيكون هدية طيبة لصاحبكم الذي تصفونه بأنه “دودة كتب”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top