صورة من موقع بيكسلز |
يجب أن تُقاطع أصدقاء المدرسة!
عبارة صادمة، خَـطّها الكاتب والفيلسوف البريطاني آلان دو بوتون!
بوتون هو مؤلّـف الكتابين الشهيرين، الذَيْن ذاع صيتهما: عزاءات الفلسفة، وقلق السعي إلى المكانة.
وهو مهتم بالفلسفة في الأمور المعاصرة، ويؤكّد دائمًا على أهمية الفلسفة في حياتنا اليومية، ويؤمن بالدور العملي للفلسفة في كل مناحي الحياة.
يرى بوتون أن مقارنة الإنسان نفسَه بالآخرين، سبب رئيس لحزنه ومعاناته.
خاصةً إن كان من يقارن نفسه بهم هم أقرانه القريبون منه في دائرته الاجتماعية.
لأنّه يعتقد أنهم يشبهونه في حياتهم وبداياتهم، وتبعًا لذلك ينبغي أن يكونوا متقاربين في الطبقة الاجتماعية والظروف الحالية.
فلو تجاوزوه وفاقوه في نجاحاتهم وإنجازاتهم، لحطّم ذلك معنوياته، وضيّق صدره. لأنّه يعلم أنه انطلق وإياهم من منطقة متقاربة، وخطّ بداية واحد، فلماذا تجاوزوه، وهو لا يزال خلفهم بكثير!؟
ذلك الأمر يشعره ان الخلل فيه هو، لا في الظروف المحيطة أو البيئة الداعمة أو غير ذلك من الأسباب المُحتملة.
من الصعب أن يقارن أحد نفسه بالملكة إليزابيث مثلًا!
الشخص العادي لا يجد غضاضةً في تفوق الملكة إليزابيث عليه في كل شيء تقريبًا. فهي تملك أضعاف ما يملك، وتشغل منصبًا أكبر من أن يحلم به، أو يُحدّث به نفسه. فما الذي يجعل هذا الأمر سهلًا عليه، ويتقبّله بصدر رحب وروح رياضيّة!؟
لأنه ببساطة ليس في مقارنة معها أصلًا.
هو لا يغار من الملكة لأنه لا تربطه معها أيّة علاقة بشكل مباشر. إنها خارج دائرته المُقرّبة، يشاهدها على التلفاز فقط، وعلى الأغلب لم يلتقِ بها في حياته، ولم يجمعهما مجلس واحد.
باختصار: الملكة خارج إطاره الاجتماعي الضّيق وليست كأقربائه وزملاء دراسته.
يُسمّي بوتون هذه الدائرة القريبة: الجماعة المرجعية. ومن أكبر خصائصها أننا ننظر إليها كمعيارٍ يُحدّد تقدُّمنا وتأخرنا في الحياة عمومًا.
الغالب أننا لن ننظر إلى ما بين أيدينا من النعم العظيمة، التي لم يتمتّع بها أسلافنا منذ أول الدهر. نحن نعلم يقينًا أننا نحظى بترفيه ووسائل لم يحلم بها هارون الرشيد في زمانه ولا كسرى في إيوانه.
للأسف هذا لا يعني شيئًا عندنا! فدائرتنا المرجعية والنقطة الأساس التي نقيس أنفسنا منها تملك مثلنا أو أكثر، فما الفائدة إذن!؟ أين تَميّزُنا وفَرادتنا؟! وما الذي سيجلب لنا المكانة التي نريدها؟!
لن نرى أنفسنا محظوظين ومُنعّمين إلا إذا امتلكنا مثل الأشخاص الذين نشأوا معنا، ويعيشون بيننا، أو أكثر منهم. حينها تنفرج أساريرنا ونرى أنفسنا محظوظين حقًا.
يشير بوتون -بطريقة جدية ومازحة في نفس الوقت- إلى أن لقاء زملاء الدراسة بعد التخرج بسنوات: الذي يُسمّى: لقاء لمّ الشمل، من أسوأ اللقاءات التي نحضُرها في حياتنا! لأنها -كما أشرنا- تدفعنا لمقارنة أنفسنا مع الأشخاص الذين كانوا يشبهوننا على الأغلب في ظروف الحياة والعمر.
وهذا قد يُـقلّل ثقتنا بأنفسنا، عندما نعلم أن الزميل الكسول الذي نعرفه أصبح الآن بعد تلك السنوات يملك مالاً أكثر منا، وصاحب شأنً أرفع من شأننا!
إذا حضرنا حفل لمّ شمل أصدقاء المدرسة أو الجامعة بعد التخرج بسنين وعرفنا أن أحد زملائنا القدامى يسكن منزلًا أكبر من منزلنا وأجمل، اشتراه من أجره الذي يكتسبه من وظيفة أكبر وأهم من وظيفتنا، فأغلب الظن أننا سنعود إلى البيت نندب حظّنا ونشعر أنّ الحياة غير عادلة.
وهنا أقف -أنا- مُعلّقًا على موضوع هذا اللقاء وغيره من أوقات مخالطة الآخرين والصبر عليهم، لأُبيّن أن قدرة الواحد فينا على رفع ثقته بنفسه، وتعويدها على الرضا بما تملك والاقتناع به، ومحاولة صرف نظرها عن ما لاتملك، خطوة جيدة قبل شهود هذا النوع من المجالس.
إن رجلًا قصير القامة يعيش في مجتمع شاع فيه قِصر القامة لن تشغل باله مسألة قصره أو حجمه الصغير.
وإن شخصًا طوله كطول الأول نشأ في مجتمع أهله طوال القامة، سيستاء من قصره، وسيشغل باله هذا الأمر طوال حياته.
وربما جعله ناقمًا على مجتمعه، أو مجرمًا يريد فرض احترامه بيده وسلاحه.
يقول دافيد هيوم وهو من أكبر الفلاسفة، في كتابه (رسالةٌ في الطبيعة البشرية): “لا ينشأ الحسد عن التباين الشديد بيننا وبين الآخرين، بل على العكس الحسد وليدُ التقارب. إن أيّ جندي عادي لن يحمل حسدًا نحو قائده الجنرال مقارنة بما يشعر به نحو رقيبه المباشر أو زميله العريف”.
نعوذ بالله من الحسد ومن صاحبه أن نتخذه صديقًا.
قال الجاحظ: “وما لقيتَ حاسدًا قط إلا تبيّن لك مكنونه بتغيّر لونه، وتخوّص عينه، وإخفاء سلامه، والإقبال على غيرك، والإعراض عنك، والاستثقال لحديثك، والخلاف لرأيك”.
قبل آلاف السنين كانت الأرض واسعة جدًا والشعب قليلًا جدًا، والموارد وافرة، والخيرات تفيض بلا حساب.
كل هذه الظروف المثالية لم تمنع حسد أخٌ لأخيه بسبب ميزة واحدة فقط تميز بها عنه!
فكما نعلم كلنا، أوغر إبليس صدر قابيل على أخيه هابيل، وملأ قلبه حسدًا وحقدًا عظيمًا، دَفَعَه إلى إراقة دمه وإزهاق روحه.
ومنذ ذلك اليوم الغابر تسرّب الحسد إلينا نحن أبناء قابيل القاتل لا هابيل المقتول (أقولها مجاراةً لما يشيع عند البعض بأن البشر هم أبناء ابن آدم القاتل. وإن كنت لا أصدق ذلك، فأبونا آدم له أبناء كثيرون غير قابيل وهابيل). ولا زالت هذه الغريزة البدائية حاضرة فينا، ولا يُرى أنها ستزول.
إلا أنها يمكن تهذيبها والسيطرة عليها، لا سيما وأن الأديان قد ذمّت الحسد وبَغّضته وحَرّمته.
حِرص الأغلبية على تعزيز الثقة بأنفسهم، أو اكتساب مكانة يحصلون من خلالها على الحب والتقدير، يدفعهم إلى تقديم تضحيات كثيرة (كصرف مبلغ كبير يُحتاج إليه، مقابل شراء قلم فاخر”ماركة” يراه علينا الآخرون!).
تزداد هذه المكانة في نظر البعض كلما حازوا أمورًا ماديةً أكثر، أو تقلدوا مواقع وظيفية أكبر. فساعةٌ أفخم تعني مكانةً أعلى، ومنصبٌ مهم يعني شأنًا أرفع وهكذا.
يعتقد بوتون أن السبب الرئيس الذي يدفعنا للبحث عن المكانة من خلال الماديات أو الأمور غير المهمة بالضرورة، هو وجود شخصيات متغطرسة في حياتنا. شخصيات كاريزمية مؤثرة، وثقتها بأنفسها عالية. وأننا من خلال انبهارنا بهذه الشخصيات نرى نقص أنفسنا -مع الأسف- ونتأثر بذلك، لنندفعَ وراء المظهر الأقل أهمية، ونترك الجوهر الأكثر أهمية.
شراء الملابس الفاخرة الغالية -مثلًا- ليس عيبًا في ذاته، لا سيما أنها في الغالب تكون أجود وأدوم، ولا تتهتّـك عند أول معركة مع آلة الغسيل الجبارة. لكن التركيز على العمل والجوهر أهم من الصور والمظهر، والمكانة المكتسبة من الصور والماديات مكانة زائلة ولو طالت.
سأعصي آلان دو بوتون، وسأقابل أصدقاء المدرسة. خاصةً إذا وصلتني دعوة عشاء من أحدهم…😁😄