متعدد المهام!؟

 

كلنا طبعًا نستطيع العمل تحت الضغط، ونتقن القيام بمهام متعددة، أليس ذلك أول ميزة وضعناها في السيرة الذاتية!؟

نعم فذلك هو طريقة عمل الحياة العصرية، و”المودرن ستايل” الذي يجب أن نعيشه جميعًا، وهو الحل الأمثل لمن يواجه متطلبات كثيرة في وقت محدود. فالقيام بمهمتين في وقت واحد، أسرع من القيام بها واحدة بعد الأخرى، أليس كذلك!؟

أحدثكم عن نفسي، فمثلًا عندما أجلس لكتابة مقال ما، يكون بين يدي الجوال تأتيني تنبيهاته من كل حدب وصوب، ولا غنى عن اللابتوب، فهو جهاز العمل، الذي أطلع على بريده الالكتروني مراتٍ لا نهائية، وعلى متصفحه أكثر من علامة تبويب مفتوحة. فيها مشاريع لم تُنجز، وأفكار لم تكتمل، وقائمة بالمهام اليومية. وأنا أنقل بصري بين كل تلك المشتتات، وأحاول الإحاطة بها وإنجازها في أسرع وقت ممكن.

للأسف، ليست هذه بشارةً طيبة، فمهارة تعدد المهام خرافة، كما أكدت العديد من الدراسات. ومن آخرها ما ورد في تقرير نشره موقع Applied Psychology التابع لجامعة سازرن كاليفورنيا، الذي أشار  إلى سوء عاقبة هذه العادة، وأن تعدد المهام يجعلنا نرتكب المزيد من الأخطاء، ونحتفظ بمعلومات أقل، ونغير الطريقة التي يعمل بها دماغنا، ونجبره على التشتت والضياع، مما يدعونا أفرادًا ومنظماتٍ إلى إعادة النظر في مدى جدوى مهارة “تعدد المهام” التي نتفاخر بها.

 

يحتاج الدماغ وقتًا طويلًا ليدخل في حالة التركيز والعمق، ويكون في “الفورمة” الذهنية، التي هي منبع الإبداع، والمنجم الذي تُستخرجُ منه نفائس الأفكار. وعلى عكس المثل المصري الشهير الذي معناه أن دخول الحمام أسهل بكثير من الخروج منه (أكرمكم الله طبعًا) فإن الخروج من “مود” التركيز والعمق أسهل بمئة مرة من الدخول إليه. إنّ أي تشتت مهما صَغُر، قادرٌ على تبديد التركيز، وجعلِهِ يتلاشى كلمح البصر، وحتى لو قررت العودة لتركيزك العميق بسرعة، فإنك ستقضي وقتًا طويلا، قد يمتد إلى عشرين دقيقة، حتى يعود دماغك للفورمة الذهنية التي كان فيها.
تختلف الأعمال في طبيعتها. إذ تسمح بعض الأعمال أن تؤدّى بالتوازي، وفي وقت واحد، فهي لا تحتاج إلى تركيز عميق، أو فراغ ذهن، كقيادة السيارة والاستماع إلى الراديو في نفس الوقت، فهذه وإن كانت مهامًا متعددة إلّا أنها أعمال غير معرفية، أعمال ذات طابع ميكانيكي، لا تستهلك جهدًا ذهنيًا كبيرًا. وهي في الغالب أعمال سطحية، لن تنتج شيئًا ذا بال، ولا يُنتظر منها ذلك.
وليس مثلها ولا قريبًا منها، الأعمال المعرفية التي تحتاج إلى تركيز عميق، وحضور كلي، فهذه لا تُشترى إلا بالمفرّق، ولا تقبل بيع الجملة أبدًا. ولو حاولت التذاكي عليها، واتخاذ الطرق المختصرة على جوانبها، بدل طريقها الرئيسي الطويل؛ فإنها ستجعلك تصطدم  بجدار الضياع، وستدرك أنك قضيت وقتك في لاشيءٍ تقريبًا.
لو أنني بالغت في الخيال الجامح، وتخيلت أنني صاحب بيزنس، فلن أتردد في فرم أي سيرة ذاتية أرى فيها الجملة البغيضة: فلان الفلاني شخص متعدد المهام!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top