مقدمة إفتراضيّة لكتاب “هكذا أُفكر”

 

خلال رحلتي اليومية في استهلاك المحتوى بكل أشكاله، كنت ولا زلت شديد البهجة والبِشر إذا مررت بكاتبٍ أو متحدثٍ أو شادٍ في الأدب فأعجبني ما لقيت منه، وراق لي منطقه وحسن تأتّيه. تجدني أُلقي له سمعي وأحتشد له بجوارحي، ولا أنصرف عنه بشيء أبدًا. فإذا انتهى مجلسه وفرغ منه، ذهبت وفتشت، فإن وجدت له مقالات اغتبطت بها وشرعت في قراءة بعضها.

والسبب في هذا، أن المقالات باقة مختارة من فكر صاحبها، يعرض فيها خطوطه العريضة ومعالم مسيرته كلها. هي عصارة لأهم ما يبتغي إيصاله للناس أو أثمن عمل يصنعه في حياته.

والمقالات أيضًا طريق ممهد لقراءة الكتب وعينة مصغرة منها، تخبرك عن صاحبها إذا أردت قراءة كتبه إن كنت ستجد فيها ما يرضيك، أم تختصر الطريق من أوله ولا تبدأ فيها أصلًا.

 

ما عظُم كاتب في هذه الدنيا إلا وله شذرات، ومختصرات، وأجوبة، وتعليقات ومقالات، يذكر فيها خلاصة فكرته الجوهرية إن كان داعية إلى فكرة يحاول إقناع الناس بها، أو يذكر فيها أهم المهمات عنده وما لا يسع مريدَهُ جهلُه.

 

ليست المقالات لغوًا فارغًا أو عمودًا تستخدمه الصحف وتسد به فراغها، بل هي فكرة مضغوطة ومساحة محسوبة، يكتب فيها الكاتب ما يريد أن يقوله لقارئه  بأوجز كلام وأوضحه. ولذلك نجد لها من الأثر ما لا نجده لغيرها من الكتابات. والدليل على ذلك شدة استهلاك الصحف في القرن الماضي، ووفرة كُتّابها، وكثرة تداولها بين أفراد المجتمع وفي جميع طبقاته.

 

طلب إلي الكاتب الكبير والأديب الذي شنف مسامعنا بجميل اختياراته أن أكتب مقدمة لكتابه الذي بين أيديكم “هكذا أفكر”. وقد سرني كثيرًا ما تفضل به علي إذ خصني بهذا الفضل، واختارني من بين طائفة كبيرة من الناس تتمنى لو عهد إليها بهذه المهمة أو كتب إليها بهذا الكتاب. لا أملك إلا أن أستجيب له وأنا متردد بين شعور الفرح والجذل، وعبء المسؤولية وثقل التكلفة. فهو أستاذ كبير ولن أصل إلى تقديم كتابه بما يليق إلا بمدد من الله، يعقبه جهد كبير قد لا تسعف عليه الأعمال والأوقات. لكنني أسأل الله الإعانة على تأديته بما تَبرأُ به ذمتي أمام أستاذي وبالشكل الذي يجعلني لا أندم إذا نظرت فيه بعد مدة.

 

خَطَّ الكاتب الكبير عارف حجاوي مقالاته هذه على مدى ثلاثين سنة أو تزيد، عن مواضيع شتى، وأفكار متنوعة. هي بستان من المقالات والأفكار تخبرنا عن كاتبها نفسه، وعن الأدب، والحياة، والمستقبل، والناس، وحديث غير قليل عن السياسة أيضًا.

 

تحدث عن مجتمعه الفلسطيني، وأوعب كثيرًا من معاناته وهمومه. وذكر أمورًا في خاصة المجتمع نعرف بعضها ولا نعرف كثيرًا منها. لأن الناظر من بعيد يظن أن المشكلة كلها تكمن في الاحتلال الصهيوني فقط! إلا أن عارف يقول لنا صبرًا إن وراء الأكمة ما وراءها، ومعسكرنا ليس على قلب واحد، والبلاء من داخله أيضًا.

 

أجاد الأستاذ عارف الاسترسال في مقالاته، فجاءت غاية في العذوبة والسلاسة. وتنقل فيها بين الأفكار بلا تكلف، حتى إنني لا أحسبه حرص كثيرًا على تدرج الفكرة وتسلسلها ووضوحها بَلْهَ ضمها في نموذج تفسيري أو نظام ينظمها. (بَلْهَ: اسم فعل أمر بمعنى دعك من أو أترك، وهو لفظ تكرر في هذا الكتاب فأنا أقتبس من أسلوبه في الكتابة عنه) وذلك مما جمّل الكتاب في عيني وجعله عفو الخاطر، كأنه حديث صاحبٍ لصاحبه، أو حديث منفردٍ لنفسه!

 

لغته سهلة ممتنعة جميلة، وهذا ليس بالغريب فما برنامج اللغة العالية الذي أطرب أسماعنا ومتع أبصارنا منّا ببعيد. كيف لا وعارف كما قال عن نفسه يعابث اللغة معابثةً وليس بلغوي ولا نحوي.

 

مقالاته فيها فكاهة وظرافة ونكتة حاضرة، وثقة بالنفس وعدم اكتراث بصغار الأمور واهتمام بكبارها. موضوعاتٌ رائعةٌ تسلمك إلى بعضها واحدة تلو الأخرى فلا تمل.

 

فيه كثير من الأخبار الشخصية والمقابلات -لا أدري أهي حدثت حقيقة أم تخيلها الأستاذ- مع عارف حجاوي.

 سئل في إحدى هذه المقابلات: ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

فقال وأنا صغير كان ملعبي الشارع، وما جعلني أصبر على أذى الشارع وقسوته أنني كنت أعيش في عالم آخر في بيتي ..عالم الكتب.

 

مما أنقص من متعة الكتاب عندي وحط من إبداعه، أنه كان يتعرض لفكرة بكرٍ، ونادرة تضرب لها أكباد الإبل، ثم يحوم حولها، ويتناول أطرافها، ويقطع سيلها وتشعبها. وربما اختصر فيها حتى أخل بها، وربما أوجز حتى ألغز، أو أغمض حتى لم تعد تعرف ما يقصد.

 

ليس الكتاب على مستوى واحد من الأسلوب والعمق، ولا أقصد هنا أن المقالات متنوعة بطبيعة ما تتناوله من موضوعات، بل أقصد أن روح الكتابة مختلفة في ثنايا الكتاب، وأنك تلاحظ بعينك اختلاف مستوى الكتابة حتى تنكره. وليس ذلك عندي بغريب إذ كَتَبه على مدى ثلاثين سنة، تطورت خلالها أفكار الكاتب وأسلوبه وخَبَر الحياة واتسعت تجاربه!

 

ومما عاب الكتاب قليلًا، أن بعض مقالاته أصلها أحاديث إذاعية. وأذكر أنني سمعت بعضها في اليوتيوب قبل عدة سنوات. كمثل قصة بشار وسَلْم الخاسر. فإنني أتذكرها تمامًا بصوت عارف حجاوي، وأظن أن السمع فيها وافق النظر، فلم يزد فيها ولم ينقص.

 

صدر هذا الكتاب وأخوه التوأم السيامي “هكذا أكتب” من مقالات متفرقة وأحاديث إذاعية، جُمعت فصارت سِفرًا كبيرًا، رأى الأستاذ عارف والناشر أن يجعلاه في كتابين يصدران معًا.

 

هذا الكتاب يختلف عن أخيه، فهو أشبه بالسيرة الذاتية كما يقول مؤلفه، وفيه أفكار شتى، وأمور أجزم أن الأستاذ عارف غيّر رأيه فيها أو عدله عما كان عليه، لكنه لم يحجب تلك المقالات أبدًا، فقد كتب عارف حجاوي ما نصه: “يقول بعض الكتاب أنهم يكتبون لأنفسهم، ولا يعبأون بالنشر، ولست كذلك. ما كتبت شيئًا إلا تمنيت أن يجد طريقه إلى الناس حتى لو جر علي ندمًا”.

 

بالمناسبة اشتريت الكتابين سويًا لكنني بدأت بهذا بلا سبب، ربما لأن صاحبي اشتراهما مثلي وبدأ بالآخر “هكذا أكتب” فأحببت مخالفته وبدأت بهكذا أفكر. ربما لا أدري فأنا شخص يفعل أشياء كثيرة لا يملك لها تفسيرًا وأزعم أن عارف حجاوي على هذا المذهب.

 

في الكتاب مقالات قصيرة جدًا لا أظن أن عدد كلماتها تبلغ المئتين، لكنك ستجد فيها معنى جميلًا وهدفًا واضحًا. فيه عدة مقالات اسمها شذرات هي أشبه بالتغريدات القصيرة يوم كان تويتر 140 حرفًا.

أضحكني منها: “عندما افتقر زوجها اكتشفت أنه أصلع!”

 

بيني وبين عارف حجاوي علاقة قديمة هي علاقة ليست من طرفين وليست من طرف واحد أيضًا، هي علاقة شخص منتج هو عارف حجاوي، وشخص يتلقى بحب وهو أنا. استمتعت ورأيت لعارف حجاوي الكثير والكثير. اللغة العالية، سيداتي سادتي، و كل لقاءاته على اليوتيوب. أَنصتُّ لقصائد الأخطل التي كان يلقيها، ولبعض الحلقات عن الألحان والموسيقى.

 

 عارف شخص طيب القلب متزن العاطفة، واضح الهدف، لا يتلجلج في كلامه ولا يتكلف في حديثه. لمست ذلك كله في هذه المقالات التي قرأتها في أقل من أسبوع.

 

وفي شأن نهضة الأمم أو ما يَمُتّ للتقدم بسبب، رأيت في بعض آراء الأستاذ إحباطًا من الشارع العربي ويأسًا منه، كأنه فقد الثقة بالمجتمع العربي كله. لم يعجبني ذلك التشاؤم منه، فأنا أرى وجود عارف بنفسه من أسباب التفاؤل وإحسان الظن.

 

هو شخص مُركّب، فيه مسّ من التفاؤل وطيف من التشاؤم، ربما كان لا مباليًا وهذا شيء رائع مطلوب إن كان سيُتحِفُنا بشخصية مثل عارف حجاوي.

 

أطال الحديث في السياسة، وأغلب الظن أن القارئ اليوم لن يهتم كثيرًا بذلك الكلام،  فالأسماء تغيرت والقضايا السياسية تبدلت واستحالت.

 

أجمل فصول الكتاب ذلك الفصل الأخير الذي سماه: “حديث الأدب” فهو فاصل طاف بنا في دوحة الأدب الغنّاء والتقط لنا من شتى ثماره اليانعة التي تجلو صدى الفؤاد، وتنعش القلب. وقد أسعفنا الحظ، فكان هذا الفصل أطول فصول الكتاب وأكثرها مقالات وذلك من دواعي السرور به.

 

ربما حاولت بهذه المقدمة أن أشير ولو من طرف بعيد، وأن أجعل القارئ ينهض لقراءة هذه المقالات ويتحمس لها.

وأول من سيستفيد من هذا الكتاب والمقدمة هو أنا ومن قرأ الكتاب مثلي، فالأدب يجعل قارئه ألطف وأكثر إحساسًا وشعورًا.

هذا عمل صالح، يزين الأدب في عيوننا ويحثنا عليه، ويجعل الكتابة البديعة الأصيلة تنتشر، والقلم السيال يجد من يتلقى سيله ويفرح به، فشكرًا لأستاذنا عارف حجاوي من قبل ومن بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 أفكار عن “مقدمة إفتراضيّة لكتاب “هكذا أُفكر””

Scroll to Top