يوهان #31

عُد بذاكرتك إلى الماضي، وتذكّر يومًا وقفتْ فيه اللغة حاجزًا بينك وبين الآخر. لا أعني اختلاف اللسان فقط، بل افتراق اللهجات وتباين اللكنات. افعلها، وأُراهنك أنك ستجد قصة مضحكة أو نكتةً نادرة.

 

سمعتُ في حلقة من حلقات (الدحّيح العظيم) أن لويس باستور الطبيب “أو الكيميائي بالأحرى”😁، وقف مُشيدًا بأعمال العالم كوخ بعد جفوة طويلة بينهما في مؤتمر علمي شهير.

لسان باستور فرنسيٌّ. قال في خضمّ إشادته بأعمال العلماء الألمان جملة “الأعمال المجمعة لكوخ”، لكن المترجم نقلها باللسان الألماني إلى “الغطرسة الألمانية”! تبًا له!!

 

ليست الترجمة وحدها ما يُسبب سوء الفهم، إذ قد ينشأ بين من يتكلمون اللسان ذاته.

رُوي أن أبا بكرٍ الصدّيق رأى رجلاً بيده ثوب، فقال له: أهو للبيع؟ فقال الرجل: لا أصلحك الله -قالها بسرعة- فقال رضي الله عنه: هلا قلت، لا، وأصلحك الله، لئلا يشـتبه الدعاء لي بالدعاء علي! 

 

درّسني في الجامعة محاضر عراقي، كان يشرح الدرس بحرارة، ويحب مناقشة الطلاب وحِجَاجهم. قلنا له يومًا: سندعو عليكم يا معاشر الدكاترة إن جعلتم الأسئلة صعبة. فردّ علينا وهو يضحك: “على راحتكم اُدعو. أصلًا الله ما يسمع كلامكم أنتم، الله يسمع كلامنا احنا الدكاترة. أنتم غشاشين ومنافقين وتكسرون سيارات المدرسين الأبرياء😄” 

تقلّبت عيون الطلاب. فعبارة “الله ما يسمع كلامكم أنتم، الله يسمع كلامنا حنا…” ثقيلة على أسماعهم. أشعرتهم بمعنىً ينافي عظمة الله، وكوننا عبيدًا له. هذا ما فهموه، أو بمعنىً أدقّ: ما تعودت ألسنتهم عليه. كنتُ منهم. ولفت نظري طالب بعد الدرس قائلًا: الدكتور خانه التعبير فقط. أما الآن فأعلم أنها كانت بمعنى: “الله يستجيب دعاءنا نحن، لا دعاءكم أنتم”.

 

وفي عصرنا الرقمي، ظهر حاجز آخر زاد الأمر تعقيدًا. ألا وهو فقدان السياق، وغياب النبرة ولغة الجسد.

محادثات الجوال خفيفة، تناسب الكلام المقتضب، أو المعروف سلفًا بين الطرفين. وجُلُّنا لا يُراعي علامات الترقيم في الرسائل اليومية. حتى من يراعيها، فإنه لا يضمن أن الطرف الآخر مستحضرٌ لها. 

 

لطالما كان الغموض سيد الموقف في تلك الرسائل.  لذلك ابتكرنا الإيموجي 😂☺️😔 …الذي يحاول التعبير عن لغة الجسد أو النبرة الصوتية، ويُليّن الكلام ويحمل في طياته صورة للوجه القابع  خلف الشاشة. تعوّدنا عليه حتى صار البعض يشعر أن كارثة وقعت إن جاءت العبارة خالية من “الإيموجي”!

ولتخفيف الأثر أكثر، جاءت الرسائل الصوتية، وخلقت نبرةً بين المتحادِثَين، ورمّمت شيئًا من تواصلنا الفطريّ هدمته الرقمنة بآلاتها الثقيلة وما أكثر ما هدمت!

 

الخلاصة:  إن كنتَ سترسل لي رسالة صوتية، فلا تجعلها أكثر من 60 ثانية. إلا إن كنت بطيء الكلام تتثاءب بين الكلمات، سأستثنيك حينها لأنني أستطيع فهم كلامك بسهولة حين أُسرّع رسالتك 2x 😂💐

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top