الدكتور جلال أمين كاتب مرموق ومعروف.
جاء إلى الدنيا بميزة تؤهّله لحظ من الشهرة، حيث إنه
ابن لأديب مشهور لا تكاد المكتبات تخلو من مؤلفاته وهو الأستاذ أحمد أمين، رحمه
الله.
كتاب “ماذا علّمتني
الحياة؟” كان بداية معرفتي بجلال أمين. ومنذ ذلك الحين، اكتشفتُ كاتبًا حظي
بإعجابي وراق لي، وسُررتُ لأنني سأقضي وقتًا محببًا إلى نفسي حين أقرأ ما يكتب.
لن أسرد حججًا منطقية تقنع الناس برجاحة رأيي وحسن
مذهبي، فاختيار الإنسان لما يقرأ يكون -في الغالب- توجهًا لحاجة ماسة، أو مزاجًا
موافقًا أو استعدادًا فطريًا لا يد له فيه؛ لذلك أزعم أن من يروق له قلم الدكتور
جلال أمين سيطالعه على أي حال.
كيف نحكم على كتاب ما بأنه جيد؟
“الكتاب الجيد هو الذي يقول لك ما كنت تعرفه بالفعل ، ويعبر عما في نفسك ويقول ما كنت تريد أن تقوله . وهو الكتاب الذي تجد فيه نفسك. “الكتاب الجيد هو الذي يستخرج من قارئه من الأفكار ما لا يحتويه الكتاب نفسه!”.
هكذا يعرّف د. جلال أمين الكتاب الجيد. وهذا التعريف
متغير بطبعه، فهو يعتمد بالدرجة الأولى على قارئ الكتاب لا على مؤلفه. فما يكون
جيدًا عندي قد لا يكون جيدًا عندك والعكس صحيح.
أزعم أنني اخترت لكم كتابًا جيدًا أُحدّثكم عنه.
كتاب من سلسلة كتب الهلال القيمة والنادرة، والتي لم
تعد تطبع -فيما أعلم- إلا نادرًا جدًا.
ومن حسن الحظ هذه المرة أن الألماس والذهب اجتمعا.
فقد كتب الدكتور جلال أمين أحد كتب السلسلة عام 2003.
وزاد الكتاب نفاسةً أن عنوانه كان مما يلذ للقارئ
ويطربه، ويجعله يغمض عينيه ولا يراعي حسابات ميزانيته حين يشتريه.
ألا وهو: “كتبٌ لها تاريخ“!
يحتوي هذا الكتاب -وإن كان شكله يوحي بأنه كُتيّب-
على مراجعة وتقييم لعدد من الكتب، نالت شهرة واسعة وثناء عظيماً.
بدأها بقصص الطيب صالح وبهاء طاهر وسلوى بكر وعلاء
الأسواني ورشدي سعيد وغيرهم.
ويعقّب بكتب أخرى نالت -في رأي المؤلف- أكثر بكثير
مما تستحقه من الشهرة والثناء.
وعلى النقيض منها يخبرنا بكتب عظيمة كانت شهرتها
والاحتفاء بها أقل بكثير مما تستحق!
يعرض المؤلف رأيه في هذه الكتب أدبية كانت أو غير
أدبية، ويقدم الظروف والأسباب التي كونت رأيه فيها، مصطحبًا القارئ في رحلة ممتعة
تطوف به في عوالم مختلفة، من الأدب والسيرة الذاتية، والسياسة والاقتصاد، وعلم
الاجتماع وعلم النفس، والتربية وغيرها.
الكتب التي اختارها المؤلف لم تكن عادية.
بصراحة، هي ليست تاريخيةً كما يُفهم من الكلمة.
فأغلبها -أو كلها- كُتبت في القرن العشرين.
لكن اختيار جلال أمين لها يرجع إلى عدة أمور. منها:
أن يكون الكتاب ذا موضوع مهم ومؤثر، أو إلى أهمية الظروف التي كُتب فيها، وربما
إلى الضجة التي أحدثها الكتاب، أو الاستقبال الحار الذي استُقبل به،
أو الدور الذي لعبه مؤلفه في حياتنا الثقافية
والاجتماعية إيجابًا أو سلبًا.
ومن ثم فإنها كلها بهذا الاعتبار “كتب لها
تاريخ“.
من غير الشائع أن تَقرأ الكاتب في مقعد القارئ!
فنحن معتادون على قراءة جلال أمين كاتبًا أصليًا
للنص ومُنشئًا للفكرة، ولم نعتد رؤيته على كرسي القارئ الذي هو كرسينا المعتاد،
فنراه في حَلبَتِنا أو ملعبنا المفضل فننظر كيف يصنع!؟
بدأ الكتاب بقصص الأديب السوداني الشهير: الطيب
صالح، عرس الزين، وموسم الهجرة إلى الشمال.
وقد كنت قرأت من قبل “موسم الهجرة إلى
الشمال” واستمتعت بها، غير أني لم أعلم بـ”عرس الزين” إلا من هذا
الكتاب. وهذه من فضائل الكتب وهوامش فوائدها.
ثنّى بعد ذلك بـخالتي صفية والدير، ونقطة نور لبهاء
طاهر، وجمعية منتظري الزعيم وعمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني، وغيرها من الكتب
الأدبية وكُتّابها.
مثل سلوى بكر التي لم أسمع بها من قبل وإن كانت فيما
يبدو روائية بارعة ظُلمت إعلاميًا وأدبيًا.
لم تكن مراجعات الدكتور جلال أمين نقدية أو تلخيصية،
بل هي أشبه بالكتابات على حاشية الكتاب أو في طرّته.
كأنها تعليقات موقع قودريدز لو مـــطـطـــتــها
قليلًا.
تجاوز الكتب الأدبية وانتقل الدكتور بعدها إلى كتب
فكرية، أو سير ذاتية.
ولكي أكون صادقًا، توقعتُ أن رأي الدكتور في هذه
الكتب سيكون رأيًا باردًا، أو مجاملة أكاديمية معتادة تصدر عن ذوي الكراسي العلمية
وأساتذة الجامعات.
غير أنني فوجئت بعكس ما توقعت! وأزعم أنه كتب رأيه
في هذه الكتب بصفته “جلال أمين” لا بصفته “الدكتور جلال أمين”
حتى إن بعض ما قرأته يعد عندي أنا -غير الأكاديمي- شعبويًا أو عاميًا!
لنحكِ في ذلك حكاية.
صدرت في أواخر القرن الماضي رواية اسمها
“الصقار” للكاتب سمير غريب علي.
سببت هذه الرواية أزمةً حينها، وحققت الحكومة مع
الناشر ومع المسئولين عن طباعة وترخيص الرواية، ثم مُنعت الرواية وعوقب المسؤولون
عنها إداريًا.
وقد كتب فهمي هويدي مقالًا مدوّيًا عنها، ذكر فيه أن
الرواية تناولت القرآن الكريم وبعض المقدسات الدينية ببذاءة وبطريقة خالية من
الأدب! مما جعل جلال أمين يعرف بهذه القصة وتُثير فضوله.
لم يكتفِ جلال أمين بمقال فهمي هويدي، بل قرأ
الرواية بنفسه. وقرر أن الرواية تجاوزت حد المعقول! فقد ضُمّنت كمية
كبيرة من البذاءة ليس فقط في الكلام عن الدين، بل وفي وصف المواقف الجنسية وصفًا
لا يخدم أي غرض غير الإثارة!
وعلى عكس الكثيرين، أيّد جلال أمين حق فهمي هويدي في
مطالبته بمنع هذه الرواية ومحاسبة المسؤولين عنها. وزعم أن حرية الكتابة لا بد أن
يكون لها حدود مثل حرية الفرد في إطلاق الرصاص!
ولم يرض أبدًا ان تُقارن بكتب أخرى، مثل كتب نصر
حامد أبو زيد التي قال أنها ينبغي أن تناقش لأنها كتب فكرية وليست للبذاءة
والسخرية.
الجنس!
يرى الدكتور جلال أمين أن الجنس في الرواية ينبغي أن
يكون على غرار الجنس في الحياة.
الجنس شيء موجود وعنصر ضروري، لكن لا ينبغي أن يدور
العمل الأدبي عليه.
نحن في كثير من الأعمال الأدبية بين جاعلٍ الجنسَ كل
شيء فيه، أو متجاهلٍ له كأنه غير موجود ومانعٍ له مطلقًا!
إن الأدب لسان للحياة، لا ينبغي أن يكون من برج عاجي
لا يرى الحياة إلا فاضلة كما يجب أن تكون، لا مفضولة كما هو حالها في الواقع.
الجنس في الأدب كالجنس في الحياة.
تحدث أيضًا عمّن -وإن شئت: عن من- نال شهرة ومديحاً
أكثر بكثير مما يستحقه.
وذكر مثالًا لذلك رجلًا -لا أريد أنا ذكر اسمه-
وعدّه يملك قدرًا ضئيلًا من الموهبة والاستعداد الفطري، ولكنه مع ذلك ملأ الدنيا
وشغل الناس، وتردد اسمه في كل محفل، ونال الكثير من التكريم والجوائز، حتى رُشّح
مع نجيب محفوظ لنيل جائزة مهمة، مما يعني إمكانية المقارنة بينهما.
والسبب في ذلك أنه مُصرّ على أنه كاتب مبدع، وصاحب
عزم وإصرار وعناد، ولا يتوانى عن تقديم نفسه في كل مناسبة.
قبل ذلك، عَقد مقارنة بين سيرتين ذاتيتين كُتبتا في
فترة زمنية واحدة.هما مذكرات يحي الجمل، ورشدي سعيد.
وقد ذكر أنهما متشابهتان في الموضوع، والتوقيت وشهرة
صاحبيها؛ مما جعله لا يستطيع منع نفسه من عقد مقارنة بينهما.
وتناول في خضمّ ذلك فن كتابة السيرة الذاتية، وما
مقدار الصدق المطلوب فيها؟ وما الهدف من كتابة السير الذاتية أصلًا؟
كان عنوان كتاب يحيى الجمل: “سيرة حياة عادية“
وهو في رأي الدكتور جلال أمين مجرد عنوان!
فعنوان الكتاب لا يتماشى أبدًا مع ما يرد فيه من
اعتزاز بإنجازاته وإبراز لجوانب تفوقه. على الضد من رشدي سعيد الذي يشير إلى نفسه بلفظ:
“الفتى” أو “صاحبنا“!
ثم في آخر الكتاب انتقل إلى شيء بعيد. فقد تكلم عن
كتاب في التربية للمؤلفة آن كاسيدي، وهي أم لثلاثة أطفال.
يتّهم كتاب “آباء وأمهات يفكرون أكثر من
اللازم” الوالدين بإفساد الأطفال بالتدليل الزائد والاهتمام المبالغ فيه.
ويعرض في ذلك قاعدة شائعة جدًا. ملخّصها أنك يجب أن
لا تنهى طفلك عن شيء أو تأمره بشيء، حتى تبين له التفسير المنطقي خلفه والدوافع
التي جعلتك تأمره به أو تنهاه عنه.
تسخر المؤلفة من هذا الاعتقاد الذي يُحمّل الوالدين
في كثير من الأحيان فوق طاقتهم، وما لا لزوم له.
وتخبرُ أنها أقلعت عن هذه القاعدة بعد أن كانت
تطبقها، وصارت اذا اعترضت إحدى بناتها على أمر أصدرته إليها وطالبتْ بمعرفة السبب،
تجيبُها الأم بلهجة حاسمة: السبب هو أنني قلت هذا.
أي أن عليها تنفيذ الأمر دون مناقشة ومجادلة.
ذلك أنه ليس لكل أمر تفسير يفهمه الطفل. والوالدان
ليس لديهما دائما لا الوقت ولا هدوء البال الذي يسمح لهما بإعطاء تفسير لكل شيء.
زاعمة أن هذا الطريقة إذا استُعملت بحكمة وبلا تعنت
وظلم من أنفع الطرائق لتربية الطفل وتعويده على الحياة في الخارج.
لا يذكر د. جلال أمين أنه حظي بلعبة واحدة كهدية
خلال طفولته كلها! ومع ذلك يزعم أنه لم يشعر بالحرمان أبدًا! وليس هذا نصيبه فقط،
بل هو حال كل الأطفال من حوله.
ختم الكتب المختارة -التي لها تاريخ- بالحديث عن
اثنين من الكتب لم أعرفهما إلا منه. وهما: كتاب وداعاً للطبقة الوسطى، وكتاب نكد
العولمة!
وأبدع كعادته عندما يتكلم عن الإقتصاد -وهو اقتصادي
طوال حياته- فقد أفهَمَنا نحن غير المختصين ما يريد بلغة واضحة وأسلوب سهل ميسور.
وخرج بنا من ظلمة الأرقام والمعادلات والأرباح
والخسائر وضيقها، إلى نور الإنسانية وفضائها الرحب.
مُضيفًا لمسة دافئة تربط المفاهيم الاقتصادية ببعض
المواقف الشخصية التي مر بها فتجعل كلامه ملامسًا للقلب، واصلًا للعقل بسلاسة ويسر.
وشرح لنا كيف أن هذا الأموال والمؤسسات مثل: البنك
الدولي وصندوق النقد الدولي، وجدت لخدمة الإنسان، ولكنها بسبب سياساتها المتكبرة
قد تجلب الكوارث للإنسان من حيث قصدت أم لم تقصد.
وبعد ثمانية عشر كتابًا انتهى هذا السِفْر الرائع
(ولو قلتَ السَفَر لصدقتَ أيضًا)، بعد أن قضيتُ معه زمانًا لم أُرِد أن ينقضي…