سميح القاسم

ولم أحدس بأن أبي الفقير
يغتالُهُ ملكٌ يهوديٌّ صغير!
سميح القاسم شاعر فلسطينى راحل ارتبط شعره بالمقاومة ومعاناة الشعب الفلسطيني التي لم تنقطع إلى اليوم.
 أدرك أحداث 1948م طفلًا من بدايتها، وعاش فصول النكبة يومًا بيوم.
سميح شاعر مُكثِر، ما أن بلغ الثلاثين حتى كان قد نشر ست مجموعات شعرية حازت شهرة واسعة.
أسهَمَ في تحرير العديد من الصحف وتقلد بعض المهام الأدبية، إضافةً إلى إنشاء مسرح فلسطيني يحمل رسالة ثقافية وسياسية، تهدف إلى التأثير في الرأي العام العالمي فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية.
له عدد من الروايات المطبوعة، وكتبٌ كثيرة في الشعر والقصة والمسرح، وغيرها.
 وقد تُرجِمَ عددٌ كبير من قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والروسية والفارسية والعبرية، ولغات أخرى.
أنقُل اليوم عن كتاب “اعترافات أدبية”، وهو من ضمن سلسلة كتاب الهلال القيمة النادرة، قصةً كُتبت في ورقة من أوراق مفكرة الشاعر سميح القاسم. تقول القصة:
“اليوم رأيت شابًا مصابًا بالشلل، جالسًا على كرسي ذي عجلتين على مقربة من السوبرماركت. مرّ به عشرات من الناس دون اكتراث. دنوت منه وسألته: هل أستطيع مساعدتك؟
قال: أكون شاكرًا لو ساعدتني بدفع الكرسي إلى شارع هنفـئـيم (الأنبياء).
فعلت ذلك بلا تردد. وحين وصلت به إلى المكان الذي أراده، التفت إلي بوجه يطفح بالامتنان، وقال وأنا أكاد أبصر قلبه على شفتيه:
شكرًا لك يا سيدي، شكرًا جزيلًا … حقًا إنك يهودي جيد”!
وبسؤاله عما إذا كان اليهود لا يتوقعون خيرًا من غير اليهودي -وهو ما يدل عليه هذا الموقف- قال:
“بالمناسبة هذا شيء يحدث لي ولعشرات وربما مئات العرب. لأن هناك تعبيرًا شائعًا على لسان الإسرائيلي، حينما يريد أن يمتدح شخصًا ما، يقول عنه: هو يهودي طيب أو جيد.
ولذلك، فهم يطلقونها جُزافًا دون أن يدركوا خطورة هذا التعبير، كأنما الجيد أو الطيب صفة مرادفة لليهودي فقط!!
طبعًا هذه مسألة تعود إلى تراث من الشعور الزائف بالتفوق. هي حالة منبثقة من عقيدة توراتية قديمة، إلا أن هذا الإرث القديم لا يكفي سببًا لنشوء هذه الممارسات.
 فنحن لدينا مثلًا في القرآن الكريم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ…}  هذا الآية تجعلنا نحس بالمسؤولية، بضرورة التواضع، بأهمية التراحم والتفاهم مع الآخر.
من حيث النص الفارق ليس كبيرًا بين {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ…} وبين “أنتم الشعب المختار” وقد يكون متقاربًا جدًا، لكن المشكلة في الخلاصة، في الاستنتاج، في التعامل مع النص بفكر حضاري إنساني دون عقد تفوق وعنصرية كما يحدث الآن”.
أقول أنا:
لو أكملنا الآية لرأينا أن خيريّتنا مرتبطة بأعمالٍ طيبة للناس، وليست من أجل “سواد عيوننا”. إنها تتضمن نفع الآخرين، ومحاولة إرشادهم إلى الخير، ونهيهم عن ضدِّه.
فكنتم بهذه الصفات خيرَ الناس للناس. فهي خيرية بشروط تثبت بثبوتها وتزول بزوالها، وليست خيرية عرقية أو عنصرية، تأتي بالدم أو بالنسب!! أولـئك يرونه تمييزًا عنصريًا، ونحن نراه تكليفًا وأمانة.
يُمكِّننا هذا المنظور بطريقة ما أن نفهم هذه اللامبالاة والعنجهية والاستهانة بالدماء التي يقوم بها الكيان الصهيوني اليوم.
إذ يرى المخيال الثقافي الصهيوني أن غير اليهودي ليس بمرتبة اليهودي، بل ربما لا يرقى لأن يكون بشرًا كامل الإنسانية.
الناس من غير اليهود أداة يحق لهم استخدامها متى شاؤوا، وليس لهم أن يعترضوا على ذلك أو يقاوموه، لأنهم في النهاية مجرد “كمالة عدد” وليسوا شعبًا مميزًا مختارًا.
يقول سميح القاسم
ولدٌ يهودي فقير
قاسمتُه خبزي وأزهاري
وأسراري
ولم أحدس
بأن “القرش” سوف يلومني يوماً
ولم أحدس بأن غزالةً زرقاء
سوف تلومني أبداً
ولم أحدس بأن أبي الفقير
يغتالُهُ
ملكٌ يهوديٌّ صغير!
عجبًا لهم! ألم نكن خير من تعامل معهم من أهل الأرض في الماضي؟! بلى، كنا كذلك.
يقرر سميح حقيقةً مفادها: أن اليهود على مر تاريخهم الطويل لم يعيشوا فترة أفضل من تلك الفترة التي عاشوها في ظل العرب والمسلمين وخاصةً في الأندلس، إذ يقول:
“هذه حقيقة لا يستطيعون إنكارها، وأنا أكرر هذه الحقيقة في حواراتي معهم. أقولها للطلبة الجامعيين وطلبة المدارس الثانوية، في النوادي، في المؤسسات الثقافية، في اللقاءات الشعبية، أتحداهم وأقول لهم:
أذكروا أن أفران الغاز أوروبية الصنع، أذكروا أن المذابح تجربة أوروبية، أن الأسلاك الشائكة والمعتقلات اللاساميّة والنازية والفاشية والعنصرية كل هذه الموبقات غريبة عن تاريخنا نحن كعرب ومسلمين.
لم يعش اليهود في تاريخهم مرحلة أفضل من مرحلة حياتهم إلى جانب العرب، وتحت جناح الدولة العربية والإسلامية. هذه حقائق لا يستطيعون إنكارها، ونحن ملزمون بتعميم هذه الحقائق عالميًا”.
تشخيصُ هذا الداء الخسيس جاء في شعر عمّنا المتنبي قبل أكثر من ألف سنة!
إِذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ ** وَإِن أَنتَ أَكرَمتَ اللَئيمَ تَمَرَّدا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top