زعيم البيان العربي 2

 

 

الحديث عن عَمِّنا الجاحظ حديثٌ ذو شجون، قد يقضي الإنسان عمرًا في قراءته ودراسته، ولا ينتهي منه.

في أسلوبه كان  أبو عثمان مرنًا، ليس عنده موقف متعصب حيال التحيزات الأدبية التي تشدد فيها غيره. لا بأس عنده باستعمال الألفاظ العامية والأعجمية إذا كانت توصل المراد وتسهل على قارئه المعرفة، لذلك كانت كتابته واصفة للعصر وجزء منه، لا مستعلية عليه أو ناظرةً إليه من برج عاجي. اقترنت مرونته بسمة أخرى، هي الملاءمة بين الألفاظ والمعاني، أو بين المقال والمقام.

 

يقول الجاحظ في كتاب (الحيوان):”لكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء، فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجزل للجزل”. وقد قادته هذه السمة إلى  نوع من الواقعية، فعَدَّ الأدبَ صورةً من الواقع، من أراد معنىً كريمًا فليلتمس له لفظاً كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظُ الشريف.

لا يعجبه أن تُخلع الألفاظ على أي موصوف، فاللفظ يجب أن يناسب المعنى، وقد قاده هذا إلى الدقة والتحري واختيار مصطلحات كل تخصص بما يناسبه.

لنأخذ مثالا – طويلًا – على وصف الجاحظ وجمال عباراته، فقد وصف الكتاب كثيرًا، وشرق فيه وغرب، ونحله أبدع الصفات وخلع عليه أبهى الحلل. يقول أبو عثمان: “الكتاب هو الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغريك، والرفيق الذي لا يَمَلُّك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالمَلَق، ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق ولا يحتال لك بكذب”.

يقول أيضًا: “الكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك وشحن طباعك وبسط لسانك وجوَّد بنانك وفخَّم ألفاظك، وعرفتَ به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، والكتاب يُطيعك بالليل كطاعته بالنهار، ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتلُّ بنوم ولا يعتريه كَلال السفر.

في دفاعه عن الكتاب يقول الجاحظ: “فالكتابَ نِعمَ الظَّهرِ والعُمدة، ونِعمَ الكَنزِ والعدةُ، ونِعمَ الذُخرِ والعقدةُ، ونعمَ النُزهةِ والعِشرة، ونعم الشغلِ والحِرفة، ونِعمَ الأنيسِ ساعة الوِحدة”.

“الكتابُ هو آمَنُ مَنْ في الأرضِ وأكتم للسر مِنْ صَاحِبِ السر” .

“الكتاب وعاء مُلِىءَ علمًا ، وظَرفٌ حشي ظرفًا، وإناء شُحن مزاحًا وجدًّا، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائبه، وإن شئت ألهتك مضاحكه، وإن شئت أشجتك مواعظه. فالكتاب نعم الظهر والعمدة”.

وقال: ما أعلمُ جارًا أبرّ، ولا خليطًا أنصف، ولا رفيقاً أطوع، ولا معلماً أخضع، ولا صاحب كفاية، وأقل جناية، ولا أنزه عن ريبة، ولا أبعد عن غيبة، ولا أكثر تصرفاً، ولا أقل تكلفاً، ولا أحسن مواتاة ولا أعجل مكافاة، من الكتاب!

“الكتابُ بستانٌ يُحمَلُ في ردنٍ،  وروضةٌ تُقلبُ في حجر”. وانظر إلى جمال وصفه: بستان يحمل في ردن! (الردن: كم الثوب)

اشتد المرض بالجاحظ في أواخر أيامه فأُصيب “بالفالج”، أو الشلل النصفي، وقال المبرد يصف حاله: “دخلت على الجاحظ في آخر أيامه، فقلت له: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو حُزّ بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس، لو طار الذباب بقربه آلمه، وأشدّ من ذلك ست وتسعون سنة أنا فيها”.

 وعلى الرغم من شدة المرض إلا أن السبب المباشر في وفاته كان ولعه بالقراءة، حيث قيل إنه توفي بعد سقوط قسم من مكتبته فوق رأسه. وأنا أحب هذه النهاية الملحمية حتى لو لم تكن صحيحة.

جاءت وفاته عام 255هـ، وعمره نحو ستّ وتسعين سنة رحمه الله رحمة واسعة

.

وحدّث أحمد بن يزيد بن محمّد المهلّبيّ عن أبيه قائلا: “قال لي المعتزّ بالله: يا يزيد، ورد الخبر بموت الجاحظ، فقلت لأمير المؤمنين طول البقاء ودوام النعماء. قال، وذلك في سنة خمس وخمسين ومئتين” وفيه يقول أبو شراعة القيسي:

في العلم للعلماء إن … يتفهموه مواعظ

وإذا نسيت وقد جمع … ت علا عليك الحافظ

ولقد رأيت الظّرف ده … را ما حواه اللافظ

حتى أقام طريقه … عمرو بن بحر الجاحظ

ثم انقضى أمد به … وهو الرئيس الفائظ

وقد رحل الجاحظ عن الحياة تاركاً إرثاً أدبياً وعلمياً هائلاً فلا تكاد تخلو مكتبة من العديد من تآليفه وتصانيفه.

وخلاصة القول أن الجاحظ كان أمّة وحده، وكان دائرة معارف، لانزال نتتلمذ على تراثه العلمي إلى اليوم، وننهل من فيض أدبه وغزير علمه، ونمتع النفس برواية فكاهاته ونوادره، والتحدث عن سخرياته>

ويندر أن نجد أديباً، أو باحثاُ في الأدب، أو ناقداً أو فكهاً، أو صاحب مذهب ديني أو فكري، إلاّ وفي كتبه مقتبسات للجاحظ، واستشهاد بآرائه، ويكفي دليلاً على سبقه وفضله، وصلاحيته وأسلوبه وفكره، أن اسمه سيظل باقياً على امتداد الأجيال، ثابتًا ما تعاقب الليل والنهار. رحمه الله وعفا عنه وكثر فينا من أمثاله الذين يبقى أثرهم خالدًا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top