وقد تندم الحجاج بن يوسف ندامةً عكسيةً مناقضةً لما أعنيه هنا من ندامة القلب الحي، فقد تحسر على فوات ثلاثة من أهل الكوفة، ماتوا قبل أن يصير أميرًا على العراق، وقال: ثلاثة من أهل العراق لو أدركتهم لقتلتهم شر قتلة، فلان وفلان وفلان. إلا أن الحجاج ندم ندامة صالحة في آخر حياته على قتل سعيد بن جبير ظلمًا، وصار ينتبه من نومه فزعًا ويصيح: مالي ولسعيد، مالي ولسعيد!
لا يعتبر هذا الندم الصالح جلدًا للذات أو عيشًا في الماضي، كما يَبثُ ذلك بعض من يتكلم في التنمية الذاتية، بل هو دليل على حياة القلب وإنسانيته، بشرط أن يكون الشخص متوازنًا لا يُدمن الندم، يقضي حياته يتحسر ويلوم نفسه على كل شيء صغير أم كبير. فهذا الذي لا يُريده أحد ولا يشعر بالراحة معه أحد.
والندم ليس ضعفًا ولا عيبًا، كيف وقد ضرب العرب قبل الإسلام بالندم مضرب المثل، واشتهر به رجلٌ ليس له من ذكر في ديوان العرب إلا بسبب ندامته، هو الكُسَعِيّ. وهو رجل في الجاهلية، مر بشجرة جذعها يصلح لصنع السهام، فمكث عندها ورعاها وسقاها من قربته حتى استوى عودها، وصنع منها سهامًا وقوسًا تنفعه فقد كان يهوى صيد الظباء.
لا أكتمكم القول أنني أخاف من الشخص عديم الندم، قليل التفكير في العواقب، الذي لا يلوم نفسه، ويرضى عنها تمام الرضا طوال الوقت. إنسان كهذا يكون في الغالب قاسيًا، يتخذ القرارات العظمى بسرعة. قنبلةٌ موقوتة، فُتح صمّام أمانها وبقي أن تُرمى على أي شيء فتنفجر وتحرق. أسأل الله ألا يوليه على أحد.
يتفاخر البعض أنه لا يندم على شيء، ويتشدق بملء فيه أنه يتقبل نفسه كما هي بكل عيوبها، والأدهى والأمـرّ أنه لا يسعى إلى تزكيتها وإصلاحها، ويعتبر ذلك صلابة نفسية وتقبلًا للذات.
يكرر كل يوم: عيشوا في يومكم فقط، واتركوا الماضي لا ترجعوا له ولا تفكروا فيه!؟ ولو فهم مراد هذا الكلام على وجهه، لأدرك أن العيش في الماضي الذي يقصده من قرأ لهم وتأثر بهم، هو الاستئسار له والبقاء فيه، وجعله قفصًا لا يغادره صاحبه، وليس معنى ذلك أن تنسى كل ما اقترفت وتتبجح بكل ما صنعت، وتنفث علينا بَخَر فمك وسوء مذهبك كل يوم: هذا أنا فتقبلوني كما أنا!!
أتعجب من ذلك وقد وجدت الطيبين المنصفين كثيري الندم ووجدت نظراءهم قليليه؟! فليت شعري، كيف يندم من هو بعدله وإيمانه مستغنٍ عن الندم، وكيف لا يندم من هو بسوء أفعاله محتاج إلى الندم كل يوم؟!