مأساة السلام


في نهاية هذا العالم، في أقصى طرف منه، يوجد قصر كبير عتيق، لعله بُني قبل آلاف السنين أو ربما ملايين. تحجب القصر عن الأعين غابة مترامية الأطراف، دغلٌ رطب كثيف الأشجار، يشعر من يراه أنه منقبض عن كل داخل، منعزل لا يريد أحدًا.

 خلف الغابة لوحة كبيرة على مدخل القصر، تقول اللوحة: “هذا بيت القِـيَـم”. في هذا البيت الواسع، تسكن عائلة كبيرة تتألف من كثير من الأفراد. الأخ الأصغر اسمه السلام، وقد كان أفراد العائلة يغبطونه على حياته الممتعة، عيش هانئ رغيد، يستيقظ كما يحلو له وينام كما يحلو له، غير آبه بشيء!

وهكذا تعاقبت آلاف السنين متشابهة، وظن السلام أن حياته ستستمر كذلك.
فجأة، وبلا سابق إنذار، وفي ليلة ثلاثاء مظلمة في اليوم الثالث عشر من الشهر قتل قابيل أخاه هابيل وسال الدم الحار على الأرض.

بالنسبة للسلام انتهكت الكومفورت زون خاصته بعد وجود الإنسان. فقد ثقته بكل شيء، وأصبح ما كان يعرفه جيدًا بالأمس، غريبًا عنه. بدأ الارتباك يملأ حياته الخالدة، ودخل في سلسلة من المصاعب: سهر، قلق، اكتئاب، هزال، شحوب، تشتت، أمراض …الخ. صار يبكي على أيامه الغابرة، ويتمنى ساعات الفراغ التي كان يتأفف منها كثيرًا، لسان حاله كل يوم:
رُبَّ يومٍ بكيتُ منهُ فلما ** صرتُ في غيره بكيتُ عليه

صار أفراد عائلة القيم، يرثون لحال أخيهم الأصغر ويشفقون عليه. تبدل شعورهم بالأمس من الغيرة إلى الرحمة، وأصبحوا يشكرون الله كل يوم على حياتهم الطيبة الروتينية، وأمست أعظم حكمة في قاموسهم: “من شاف مصيبة السلام هانت عليه مصيبته”.

للأسف تعرّف البشر على السلام، وأصبحوا يثرثرون كل يوم عنه ويوهمون أنفسهم (بقصد أحياناً) أنهم يريدون نشر السلام والأمان، وأن الحروب التي يخوضونها ليست إلا ليعم السلام أرجاء كوكبنا الأزرق!
يتشاءم السلام كلما سمع اسمه يتردد بين البشر، علمته التجارب أن الخطر يزداد ويقترب إذا أكثر البشر من ذكر اسمه وتكريره.

المشكلة أنهم يفعلون ذلك على مرأى ومسمع من السلام، يقولون ذلك وهو بين أظهرهم لم يزل!
يصرخ السلام ويصيح: كذّابون منافقون. البشر آهٍ ثم آهٍ منهم، أخبث الكائنات وأشدهم مكرًا. أتيتهم جهارًا وإسرارًا، جماعات ووحدانا، ليلا ونهارًا. ألقيت بنفسي في طريقهم، تعرضت لهم في كل مكان، ولم يهتم لأمري أحد منهم. كانوا يعرفونني ويتجاهلون، يرونني ويتعامون، ثم يخرجون على منابرهم يقولون أين أنت أيها السلام! أفٍ لكم، كم تمنيت أن الله لم يخلقكم.

اللهم أنت السلام ومنك السلام أنعم علينا بالسلام في الدنيا والآخرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top